الموسيقى في ثلاثة أفلام برازيلية: الشغف وتأهيل الطفولة

علاء رشيدي

الأربعاء 2018/09/12
شغلت الموسيقى حيزاً واسعاً في أفلام مهرجان السينما البرازيلية في سينما صوفيل - بيروت هذا العام. فقد برزت الموسيقى كموضوعة أساسية في اثنين من أهم أفلام المهرجان "خوان المايسترو"(2017 ) و "أبناء باخ، أو باخ في البرازيل"، (2015)، بينما استوحي عنوان الفيلم الثالث "تماماً مثل آبائنا"، (2017) من أغنية برازيلية مشهورة، وإن لم يتعلق الفيلم بشكل مباشر بموضوعة الموسيقى.

الموسيقى والشغف
الفيلم الأول حول حياة عازف البيانو وقائد الأوركسترا البرازيلي جواو كارلوس مارتينز (1940- ). وهو الشريط السينمائي الذي افتتح المهرجان، الفيلم سيرة سينمائية وموسيقيّة لأحد أشهر العازفين البرازيليين وتجربته الملهمة، من إخراج ماورو ليما، وهو الذي كان قد حقق سابقاً فيلم "تيم مايا"(2014)، والذي خصص لسيرة حياة مغني السول Soul الراحل تيم مايا.

مرة أخرى يحقق هذا المخرج فيلماً عن سيرة ذاتية لموسيقي، لكنه ينتقل من موسيقى ال Soul، التي شهدنا منذ أيام وفاة من أبرز أعلامها في الولايا المتحدة أريتا فرانكلين (1942 – 2018)، إلى الموسيقى الكلاسيكية، حيث أنه يروي حياة عازف بيانو وقائد أوركسترا.



للتدليل على عبقرية خوان الموسيقية منذ الطفولة، يفتتح الفيلم بمشهد درس البيانو لطفل في الثامنة من عمره، مدرسة البيانو لا تصدق مقدار الصفحات التي تعلمها خوان بفترة قصيرة، لقد تمرن على 35 صفحة من النوتة بدلاً من صفحتين، وعندما يؤدي لها حتى الصفحة 35، تدرك مدرسة البيانو بأنها أمام طفل استثنائي في علاقته مع الموسيقى.

مشاهد متتالية توضح تعلق خوان بالموسيقى، فهو يردد النوتات سائراً في الطريق، شارداً وحده في الحديقة، وحتى وهو يصعد درج المنزل، إن الموسيقى تبقى مرافقة له طيلة الوقت، وليست مشروطة بجلوسه إلى البيانو لممارستها، لأنه يؤدي الألحان صوتياً، كنقرات صوتية على آلة البيانو، لكن بفمه.

هذه القدرة على الإستفادة من الزمن لصالح تعلم العزف على البيانو، تكسب خوان في طفولته مهارات لا يمتلكها الا المختصون. تقدمه مدرسة البيانو إلى مدرس آخر أعلى منها مرتبة، وأقدر على التعامل مع المواهب الإستثنائية، مدرس صارم، بسحنة مقتضبة طيلة الوقت، إلا أنه ينجح بالوصول بخوان الفتى إلى عازف بيانو استثنائي، يبدأ بتنظيم رحلات حفلاته حول العالم، بالتعاون مع والد خوان.

تتالى نجاحات الطفل العازف خوان مارتينيز، وينتقل إلى الولايات المتحدة حيث يعرض عليه مشروع تسجيل جميع مقطوعات باخ. لكنه في نيويورك، يعثر على مجموعة شبان في ملعب الحي يلعبون كرة القدم. كان خوان طفلاً يرغب باللعب مع الأطفال بالكرة لكن البيانو قد احتل كل وقته، وها هو شاباً يخرج للعب مع أطفال برازيليين في أحد أحياء نيويورك، فيقع على ساعده، تدخل حجرة في ذراعه، تمنعه طيلة حياته من العزف كما كان سابقاً.

يؤكد الأطباء له على ضرورة أن يبقى 15 يوماً فارقاً بين الحفلة التي يؤديها في العزف عن الأخرى، إلا أنه يستمر دون أن يفصل المدد الزمنية الكافية، مما يفقده رويداً رويداً إمكانية التحكم بأعصاب إحدى يديه. في إحدى الحفلات، وأحد أقسى مشاهد الفيلم، نتابع كونشرتو بيانو يقدمه خوان مع الأوركسترا، وهو يضع قطعاً حديدية تصلب من أصابعه، لكنها تدميها، تنفرش الدماء على أزرار البيانو، والمتلقي يتخيل حدة الألم التي ترافق كل نوتة من نوتات الكونشرتو الرائع. تجربة وجدانية وذهنية عالية، حيث تسمع موسيقى جميلة لا ترغبها أن تتوقف، لكنك بصرياً ترى الدم النافر من كل إصبع يعزف تلك الموسيقى.

الجانب العاطفي في سيرة خوان الذاتية لا يلعب كبير أهمية، لقد مارس الجنس للمرة الأولى في ماخور للنساء المأجورات، بنى معهن علاقة صداقة، ومن ثم تعلق بشابة من عمره وتزوجها، فأنجبا طفلين، لم يكن خوان مهتماً بهما، ولا بزوجته، فافترقا، في تلك المرحلة كان خوان يعاني أشد أزماته العصبية في اليدين، وأصبح غير قادراً على الأداء إلا بيد واحدة. لم يعد قادراً للتحكم في أعصاب وأصابع اليد اليمنى، وتذكر أن سباستيان باخ كان قد كتب كونشرتو بيانو وأوركسترا ليد واحدة فقط، فتمرن عليه وقدمه في حفل استثنائي.

هكذا هي إذاً، حكاية هوس الفنان بإبداعه، شغفه في العزف، الأداء، ومن ثم بما هو أعلى بالموسيقى. ذلك يتجلى في المرحلة التالية من حياة خوان، وذلك حين يفقد القدرة كلا الذراعين بالعزف على البيانو، لقد تجاوز الحدود الطبية المسموحة، وأصبح يجب عليه المفاضلة بين الحديث أو العزف على البيانو. الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية، ينقل بواقعية ما جرى في سيرة حياة عازف البيانو وقائد الأوركسترا البرازيلي خوان مارتينيز، أي أنه طبياً، فعلاً قد عايش مفاضلة بين التفوه بالكلمات وبين العزف على البيانو.

عاشق الموسيقى هو خوان، وليس فقط العزف على البيانو، فيفكر بعد تدهور حاله الصحية، بتعلم قيادة الأوركسترا، وهذا ما يصبح عليه بعد تمارين وجهود أيام طويلة، نراه في الفيلم يقود أوركسترا بكامل المهارة والبراعة. أما المشهد الأخير من الفيلم، فهو يشهد ظهور خوان كارلوس مارتينيز الحقيقي، وليس الممثل مؤدي الدور، نراه في الثمانين من عمره، يتقدم إلى البيانو ليعزف أمام الكاميرا والجمهور، نرى ذراعه اليسرى كيف يتعامل معها بصعوبة، نرى الشخص الحقيقي الذي شاهدنا للتو حياته بالكامل كفيلم سينمائي.

الفيلم إذاً عن ذلك الشغف الذي يُعرف فيه الفنان، أو أي ناجح متميز في مهنة أخرى، رأيناه في السينما مع عديد أفلام السيرة لموسيقيين أو رسامين أو كتاب، مثلما رأيناه أيضاً في الشغف بالرياضيات مع (عقل جميل، 2001، رون هاورد)، وأيضاً في الرياضيات مع ( Good Will Hanting، 1997، غاس فانت سانت). لكن بينما في "عقل جميل" يصل الولع بالرياضيات ببطله إلى الهلوسة واختلاق البرانويا وحدود الجنود، وبينما يفضل الشخصية الرئيسية في Goood will Hanting ، والذي هو ويل، العلاقة العاطفية على متابعة مسار العبقرية في الرياضيات. فإن فيلم "خوان المايسترو" ينتصر لصالح هذا الشغف، ومن قصة واقعية يبين أنه مهما كان الطريق صعباً، فإن خلف الشغف، سعادة، حسب ما يبينه هذا الفيلم.

استلهام أغنية كعنوان لفيلم


"تماماً مثل آبائنا"، هو عنوان الفيلم الثاني من أيام المهرجان السينمائي، وهو لا يتعلق بالموسيقى في موضوعه، ولكن عنوانه مأخوذ من عنوان أغنية Como Nossos Pais للمغنية البرازيلية إليسا ريجينا (1945 – 1982)، والتي أدت الكثير من الأغاني البرازيلية الجماهيرية وأغان من موسيقى الجاز. نحن فقط أمام عنوان فيلم مأخوذ من عنوان أغنية.

الفيلم يتعلق بحياة الشخصية الرئيسية روزا، وهي شخصية تسعى إلى النجاح على أصعدة حياتها كافة، من جانب حياتها المهنية والعملية، ومن جانب دورها كزوجة وأم. هي حقيقةً ترغب في كتابة المسرحيات بينما تأسرها وظيفتها في شركة لسيراميك الحمّامات للحفاظ على مستوى الدخل في عائلتها. أما على صعيد دور الأم والزوجة، فهي كلما قدمت أكثر، كلما رأت الأحداث تأخذ عائلتها بطريق غير ذاك الذي تمنته. إذاً، روزا من نوع تلك المرأة الأم الزوجة العاملة التي تتصدع بين طموحاتها وإلتزاماتها ومشاعرها. 

الموسيقى وتنمية الطفولة


الفيلم الثالث من أفلام المهرجان المتعلق بالموسيقى، يمكن أن تحمل حكايته ما ينطبق على واقع الطفولة التي تعيشه منطقتنا. الفيلم بعنوان "أبناء باخ" أما ترجمته الإنكليزية فقد اختير عنوان مختلف لها وهو "باخ في البرازيل".

تروي الحكاية عن مارتن أستاذ موسيقى متقاعد ألماني يهم بالسفر من ألمانيا إلى البرازيل كي يتسلم ورقة موسيقية أصلية لباخ، ورثها مارتن بعد وفاة صديقه في مدينة أورو بروتو الباروكية البرازيلية، وترك له مخطوطة باخ الأصلية كذكرى بينهما. وحين يصل الأستاذ مارتن إلى تلك المدينة يتعرض للسرقة على أيدي أطفال أحداث، ويدرك أنه لن يسترجع الورقة الأصلية بخط يد باخ وأشياء أخرى سرقت منه إلا بالبقاء لفترة في هذه المدينة البرازيلية المعزولة، وبالتحديد يقايض شرط الحصول على ثروته عليه أن يعلم الموسيقى للأطفال في حجز الأحداث المخصص لهم في المدينة.

تنشأ علاقة بين الأستاذ الألماني وبين مجموعة الأطفال الأحداث البرازيليين المولعين في الموسيقى، فيشكلون فرقة موسيقية، تجمع بين موسيقى باخ، وموسيقى الطبول التي تميز الموسيقى الشعبية البرازيلية. يقود مارتن فرقة الأطفال الأحداث البرازيلية إلى ألمانيا، حيث يشاركون في المهرجان السنوي الذي يخصص هناك لموسيقى باخ، ويقترح على جمهور المهرجان للمرة الأولى هذا المزج بين موسيقى الطبول البرازيلية وموسيقى باخ الباروكية.

الموسيقى في هذا الفيلم تقارب موضوعتين: الأولى هي قدرتها على تلاقح الحضارات، فالفيلم يسمح لنا بإكتشاف الجانب الباروكي للثقافة البرازيلية، وذلك عبر جولة في مدينة (أورو بروتو) التي تحمل طابع العمارة الباروكية باحتها وكنائسها وشوارعها وأبنية منازلها، وبالمقابل فإن حكاية الفيلم تبين كيف أيضاً يمكن للموسيقى البرازيلية الشعبية أن تندمج مع موسيقى باخ الباروكية وتقدم بحضور جماهيري فضولي على هذا المزيج في حفل في ألمانيا. إذاً، الموسيقى جسر ثقافي بين الحضارتين المتباعدتين.

أما الموضوعة الثانية المتعلقة بالموسيقى، فهي دور الموسيقى في تنمية واقع الطفولة، فها هو تعلق الأطفال الأحداث بالموسيقى يؤدي إلى تغيير حياتهم، ويمنحهم القدرة على الإنفتاح والإندماج مع العالم من حولهم. ليست هذه القضية، أي دور الموسيقى والفن في التنمية وفي التأهيل للطفولة، بالموضوعة الجديدة، لكننا ما أحوج منا تذكرها والعمل على تفعيلها اليوم، وذلك في ظل منطقة نعيش فيها، حيث يسجل وضع الطفولة فيها الأسوأ على مستوى الخارطة العالمية. فها هي سورية تسجل أعلى نسب تسرب أطفال من التعليم في العالم، وها هو لبنان يسعى جاهداً إلى تنيمة وتعليم العدد الكبير من اللاجئين السوريين الهاربين من الحرب على أراضيه، وها هي فلسطين تعاني يومياً من وضع الطفولة البائس في ظل الظلم والإعتقال الذي تعيشه هذه الفئة العمرية على يد الإحتلال الإسرائيلي.

في ظل هذه الظروف الصعبة التي تعيشها الطفولة في منطقتنا، يأتي فيلم من مثل "أبناء باخ" ليذكر بالدور الذي يمكن أن تلعبه الموسيقى والفنون في تنمية المواهب والتقنيات الفنية لدى الأطفال، وفي منحهم القيم الثقافية والأخلاقية التي تعبّر إلى وجدانهم وأذهانهم عبر قدرة وتأثير الفن الموسيقي الغير محدودين.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024