"سلفيو مصر": هكذا تفرّعوا وتمددوا..

شريف الشافعي

الثلاثاء 2019/07/09
هل تقتصر قراءة "السلفية"، كتيار إسلامي عقائدي نشأ في مقابلة الفرق الإسلامية الأخرى، على الأبحاث الدينية، باعتبار أن الأفكار والتيارات والحركات السلفية شأن تخصصي لا تجوز مقاربته خارج دائرة الدراسات الدينية المُحكمة؟


لو ظلت السلفية على عهدها الأول كفقه للنصوص، فقط لا غير، لربما كانت الإجابة بـ"نعم"، أمَا وقد تحرك مفهومها إلى فقه الواقع، وفقه الواجب، وانتشرت تمظهراتها الاجتماعية والسياسية والحزبية على الأرض في مصر المعاصرة، منذ منتصف القرن التاسع عشر حتى اليوم، فإنها قد دخلت حيّز العمل العام.

لقد لمست السلفية نطاق المشهد الدنيوي بصراعاته وانقساماته ومصالحه المتضاربة، ومن ثم فإنها باتت مقصدًا بحثيًّا لا يحتكره علماء الدين، وتعددت مجالات دارسيها وراصديها بين مؤرخين واجتماعيين وسياسيين، كما أوجد الصحافيون والإعلاميون لأنفسهم ذريعة لمناقشتها بجرأة كإحدى القضايا المؤثرة في المجتمع المدني وإحداثياته وفعالياته.

لم تكن السلفية بطبيعة الحال في مرمى هذه الرياح العاتية كلها في بدايتها ونشأتها، كمذهب يشير إلى الالتزام بسلوك الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ومعتقد السلف الصالح، وضرورة انتهاج منهج السلف في فهم الكتاب والسنة وتطبيقهما وما إلى ذلك، فضلًا عن اعتنائها بظواهر النصوص وحقيقة الإيمان بين القول والعمل وتقديم النقل على العقل وغيرها من الأركان.

لكنْ مع تطورات تيارات السلفية وتشكلاتها عبر العصور منذ عهود أحمد بن حنبل وابن القيم الجوزية وابن تيمية، مرورًا بعبد العزيز بن باز ومحمد ناصر الدين الألباني ومحمد بن صالح بن عثيمين وغيرهم، وصولًا إلى الحركات والمدارس السلفية الحديثة في مصر المعاصرة حتى يومنا هذا، فإن السلفية صارت في قلب المعترك، خصوصًا أنها وضعت من بين أهدافها الصريحة إصلاح نظم الحكم والمجتمع والحياة بصفة عامة، فكان طبيعيًّا أن تشتبك وتصطدم مع غيرها من النظريات والأطروحات السياسية والإصلاحية.

ولعل السنوات التي أعقبت 25 يناير 2011 في مصر على وجه التحديد، هي التي شهدت التجليات الأكثر وضوحًا للحركات والتيارات السلفية في خريطة العمل الميداني، والملعب السياسي على وجه التحديد، الأمر الذي أوصلها إلى منطقة بعيدة كل البعد من القداسة والحصانة، وفتح شهية راصديها وقارئيها إلى التعاطي معها كظاهرة عادية يمكن ملامستها، حتى من دون الاحتشاد المعرفي التخصصي، والتحلي بالقدرات التحليلية الثاقبة، شأنها شأن غيرها من الظواهر الاجتماعية المؤثرة، وربما المثيرة.

في نبذة الغلاف الأنيق لكتاب "سلفيو مصر" (الدار المصرية اللبنانية، 2019، 450 صفحة) للروائي والإعلامي محمود الورواري، أنه "توثيق غير مسبوق لظهور الأفكار والحركات والتيارات السلفية منذ العام 1852 وصولًا إلى حالها اليوم"، ويعِد الكتاب قرّاءه في التنويه نفسه بـ"أسرار مثيرة ومفاجآت ستتكشف وتتفجر"، خصوصًا في ما يتعلق بعلاقة التيارات السلفية بجماعة "الإخوان المسلمين"، ومواقفهم من المسارات السياسية الكبرى منذ عهد عبد الناصر حتى المرحلة الأكثر سخونة في أعقاب يناير 2011.

إنه الإعلان المبكر، قبل الانخراط في فصول الكتاب، عن الشمولية والأسبقية والإثارة والكشف والمفاجآت، وفق مقتضيات "البيست سيلر" ولوازم التسويق والتشويق، ولا يغفل الكتاب التوضيح بأن هذا "الرصد" يرتكز على "المنهج التوثيقي"، ويلتزم بروايات أصحاب ومؤسسي كل تيار سلفي، منذ تأسيس الجمعيات، حتى أحدث التشكيلات.

ليس صعباً الوصول إلى "ميكانيزم" صياغة الكتاب، ومحتوياته، وأدبياته، وأبجدياته، سواء من خلال إتمام قراءة مقدمته وفصوله وملحقه الختامي، أو من خلال الاستشفاف الأوّلي لأرضية زراعة مضمونه، كما يحكي الورواري في افتتاحيته: "مرت الأحداث، وجاءت ثورة 30 يونيو 2013، وكان حزب النور حاضرًا كمكوّن لرسم خريطة طريق المستقبل. وفي جلسة مع الإعلامي السعودي تركي الدخيل بعد توليه رئاسة قناة العربية، عرضَ عليَّ فكرة أن نقدم مشروعًا عن السلفية في مصر".

ويواصل المؤلف ساردًا خلفية "مشروعه" المنطلق من منصة إعلامية في الأساس: "بلا أي تردد، انطلقتُ آخذًا المشروع كله على عاتقي، وخلال شهرين بدأنا في التصوير، لنقدم سلسلة اخترنا لها اسم (سلفيو مصر)، في خمسة أجزاء، كل جزء يستغرق نحو 49 دقيقة، وهذه الأجزاء هي: النشأة والتكوين، سلفية السبعينيات، السلفيون وثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011، السلفيون وما بعد 25 يناير/ كانون الثاني، السلفية ما بعد رئاسة محمد مرسي حتى 30 يونيو/حزيران 2013".

بالرجوع إلى فصول الكتاب، فإنها تبدو ترجمة لسيناريو الحلقات، وفق المعيار الزمني ذاته في التقسيم والتسلسل، فالبداية منذ نشأة الجمعية الشرعية (الكيان السلفي الأقدم) في منتصف القرن التاسع عشر، والنهاية مع ختام مرحلة مرسي وحلول 30 يونيو 2013 ومصر فيها أكثر من عشرة أحزاب سياسية سلفية.


إلى أي مدى التزم الكتاب بوعوده التي أعلن عنها في توطئته وغلافه؟ فقد قدّم توثيقًا بالفعل للحركات والتيارات السلفية، لكن في إطار رصدي مفاهيمي، وليس في إطار تحليلي منهجي، فهو كتاب تسجيلي فوتوغرافي يعنى بالتسمية والتعريف والوصف الموجز، وليس من غاياته الغوص في طبقات البرهنة والتعمق في الشروح والتفسيرات. ولربما جاء ذلك التوجه من حيثيات التناول الميديوي الأصلي، الراغب في التتبّع الحيادي، مع الاكتفاء بالعناوين العريضة، وترك التفاصيل والحواشي والأمور التقديرية برمتها للمتلقي، ليستكمل بجهده الشخصي ووعيه الخاص قراءة الوقائع والمواقف.

لربما تبدو النقلات و"الكادرات" السريعة الفجائية ملائمة في شريط الصور الفيديوية المتلاحقة، حتى عند طرح قضايا جادة وأمور مستعصية، في زمن المنافسات الفضائية واللهاث خلف السبق الإخباري والمعلوماتي. لكن تحويل تلك العروض إلى كلمات وعبارات بين دفتي كتاب على النحو ذاته من السرعة والخفة، أمر ليس مستساغًا، فهو كتاب أريد له أن يكون مرجعًا كاشفًا وليس موسوعة مفاهيم ومصطلحات وتعريفات وتسميات.

انبنى الكتاب، بكامله، على جملة من الفقرات القصيرة المتلاحقة، بالتوازي مع تتالي الأحداث وإثارتها على مؤشر الزمن، وحملت الصيغ السردية المكتوبة بلسان الراوي العليم ما يمكن تسميته باليقين المطلق، فلا مجال للتشكك والاحتمالية والمراجعة، ومضى الكتاب عبر ومضاته الموجزة يطلق الأحكام الكبيرة العامة ويلخص المواقف والتفاصيل بحسم، ومن ذلك على سبيل المثال: "ظهر موقف الداعية السلفي الشهير محمد حسان، الذي يعتبر من أبرز مشايخ السلفية في القاهرة، مرتبكًا تجاه المشاركة في ثورة 25 يناير/كانون الثاني، حيث رفض وتحفظ في البداية، ثم عاد وشارك في النهاية، ونزل إلى ساحة الميدان بنفسه أكثر من مرة".

بالأسلوب الواثق نفسه، على غرار موجز الأنباء المصوّر أو الفيلم الوثائقي القصير، دارت فصول الكتاب كلها، مع الاستعانة بلقاءات حية أجراها المؤلف الإعلامي مع بعض السلفيين والمؤرخين والمفكرين والباحثين فى شؤون الجماعات الإسلامية من أمثال كمال حبيب وفتحي عثمان، ليحكي المؤلف وضيوفه قصة السلفية والسلفيين عبر العصور، ومواقفهم إزاء الأحداث والمتغيرات الاجتماعية والسياسية، وعلاقاتهم بالأنظمة الحاكمة، وبجماعة "الإخوان المسلمين".

إلى جانب التأريخ والتوثيق اليقيني المبتسر للسلفية ونشأتها وتياراتها وتفاعلاتها المباشرة على أرض الواقع، فقد لجأ الكتاب إلى أمر آخر غريب إلى حد ما، هو تضمينه بحثًا مطوّلًا لمؤلف آخر، على اعتبار أنه مقدمة لكتاب الورواري، في حين أن هذه المقدمة التي كتبها الباحث الإسلامي محمود السيد، المتخصص في التيار السلفي، تبدو كأنها كتاب مستقل داخل الكتاب الأصلي، فهي تقع في 120 صفحة، وتنتهي إلى النتائج ذاتها، بالضبط، التي يدور في فلكها عمل الورواري وضيوفه.

برر الورواري إدراج مقدمة محمود السيد بالرغبة في "خلق توازن بحثي متخصص" في الكتاب، والحقيقة أنها بدت محاولة لإضفاء غطاء من الجدية والمنهجية لتمرير الأفكار والتعليقات المرسلة التي يضمها الكتاب باعتبارها ثمرة طرح علمي أكاديمي، وهذا ما لم يعمد إليه الكتاب. ومما وصلت إليه دراسة السيد التحليلية أن قطاعًا عريضًا من مسلمي الأمة المصرية، ميولهم سلفية وهواهم سلفي، بنسبة لا تقل عن 64% من إجمالي الشعب، وهذا ما تجلى بشكل عملي واضح في الانتخابات والاستفتاءات الحديثة التي لعبت فيها الأحزاب السلفية دورًا في توجيه الجماهير (دستور 2012 نموذجًا).

بالإضافة إلى تلك النتائج والملاحظات الجادة التي انطوت عليها مقدمة محمود السيد (الكتاب داخل الكتاب)، فإن عمل الورواري لم يخلُ من فوائد تعميمية تجميعية، وأمور ومعلومات مفيدة، حول تاريخ السلفية وحركاتها ومواقفها، وإن كان وصفها بالأسرار والمفاجآت بعيدًا من المنطق. فالكثير من هذه "الداتا الخام" معروف ومتاح ومجاني، ويمكن للقارئ العادي، وليس الباحث المتخصص، الوصول إليه بقدر من الجهد.

من هذه اللمحات المثمرة، التي يمكن اتخاذها مفاتيح لمقاربات ومباحث أعمق أثرًا، علاقة السلفيين بثورة 25 يناير 2011 وما بعدها، حيث تلمس الكتاب ما وصفه بـ"ابتلاع التيار السلفي لشباب الثورة"، حتى أن شباب الثورة ظهر يتيمًا في جوار السلفيين، وفي تلك الآونة ظهرت السلفية كفاعل سياسي، كما في مرحلة التعديلات الدستورية واستفتاء 19 مارس و"غزوة الصناديق" بتعبير الشيخ أبو إسحق الحويني، حيث قمة الخلط بين الديني والسياسي، وكذلك نشوء الأحزاب السلفية وعلى رأسها "حزب النور" الذي حل ثانيًا بعد حزب "الحرية والعدالة" الممثل لجماعة "الإخوان".

وترصد الكتاب ملامح الخلاف بين أحزاب السلفيين و"الإخوان" في عهد الرئيس مرسي، الأمر الذي انتهى بعزل مرسي ومشاركة أحزاب السلفيين في صياغة العهد الجديد في مرحلة ما بعد الإخوان بدعوى "الحفاظ على المسار الديموقراطي".

من النقاط المضيئة كذلك في الكتاب، توقفه عند مراحل نشوء وتطور التيارات السلفية الريادية من قبيل: الجمعية الشرعية، أنصار السنة المحمدية، دعوة الحق، السلفية الجهادية، بالإضافة إلى جماعات السبعينيات التي انتهت بتبلور تيارات العنف الديني واغتيال الرئيس السادات. كما يترصد الكتاب جماعات العنف الجديدة، التي ظهرت خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في سيناء، بعد فض اعتصام "رابعة"، ومنها ما يتصل بتنظيم "داعش"، وإليها تُنسب أحداث عنف كثيرة ضد الأمن المصري، الذي ما زال يشن حربًا عليها بهدف اجتثاثها من منابعها.

"سلفيو مصر"، لائحة عناوين مرجعية، تفتح الباب على مصراعيه أمام مكاشفات لا حصر لها تتعلق بالتيارات الدينية في مصر خلال 170 عامًا، ومدخل ضروري لقراءات منهجية في هذا المضمار تتطلب المزيد من الوقت والجهد والتقصي والاصطبار.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024