هل في "حزب الله" أذكياء؟

أسعد قطّان

السبت 2019/11/30
ثمّة اتّجاه لدى معظم المحلّلين السياسيّين في لبنان إلى اعتبار وقوف حزب الله على مسافة بعيدة من الانتفاضة الشعبيّة، خوفاً من أن تكون الانتفاضة جزءاً من «الخطّة» الأميركيّة لضرب المحور الإيرانيّ في الشرق الأوسط. هذا التحليل لا يخلو طبعاً من الحقيقة، رغم جنوحه المفرط إلى اعتبار كلّ ما يجري في منطقتنا جزءاً من مؤامرة كونيّة تحاك في غرف أجهزة المخابرات المغلقة.

لكن إذا اعتبرنا هذه الفرضيّة صحيحة، أي أنّ حزب الله يخشى أن يكون ضحيّة مؤامرة أميركيّة تسعى إلى ركوب الانتفاضة الشعبيّة واستغلالها، فالأولى به أن يواجه هذه الخطّة لا عبر تمتين جبهته الداخليّة فقط، بل عبر لمّ شمل اللبنانيّين حول مشروع مقاومة العدو الصهيونيّ، علماً بأنّ الانتفاضة الشعبيّة لم تشكّك يوماً في مشروعيّة المقاومة. عمليّة لمّ الشمل هذه ستتسنّى لحزب الله بسهولة أكبر، إذا هو لاقى الانتفاضة الشعبيّة في منتصف الطريق عوضاً من شيطنتها، أو اتّهامها بأنّها وقعت فريسة التسييس، أو إرسال مجموعات من الشبّيحة «الشيعة» لضربها. بكلمات أخرى، احتضان الانتفاضة سيرفع من أسهم حزب الله في لبنان، وسيمكّنه من مواجهة المشروع الأميركيّ بفاعليّة أكبر. لكنّ الواضح أنّ حزب الله لا يتصرّف على هذا النحو. لماذا؟ لا بدّ إذاً من وجود مجموعة من العوامل الأخرى التي تدفع الحزب إلى موقفه «المتشدّد» هذا.

يرتبط بعض هذه العوامل بالتركيبة الإقليميّة، إذ ربّما هناك إحساس في قيادة الحزب أنّ الجبهة «الشيعيّة» في الإقليم مهدّدة بالتصدّع بفعل الاحتجاجات التي لم تتوقّف في العراق منذ أسابيع والمظاهرات التي شهدتها إيران مؤخّراً. يضاف إلى ذلك أنّ قاعدة حزب الله في لبنان ليست في منأىً عن هذا التصدّع على قدر ما كانت الانتفاضة الشعبيّة قادرةً على اجتذاب بعض الشرائح الشيعيّة في المجتمع اللبنانيّ، التي لا تقلّ عن سائر فئات هذا المجتمع تعرّضاً لتبعات الفساد السياسيّ والأزمة الاقتصاديّة والتفقير.

هل هناك عوامل أخرى محض محليّة؟ تقوم الانتفاضة اللبنانيّة على مجموعة من الثوابت من الصعب أن يتصادق حزب الله معها سواء عملانيّاً أو إيديولوجيّاً. فهي ترفض نظام المحاصصة بين ممثّلي الطوائف الذي أودى بالبلد إلى حافة الانهيار. ومن المعروف أنّ حزب الله، شاء أم أبى، قد صار جزءاً من هذا النظام عبر عملية «مقايضة» الشقّ المتعلّق بالسياسة الخارجيّة وشرعيّة المقاومة، وهو ساحته المفضّلة، بكلّ الامتيازات السياسيّة والاقتصاديّة التي يستفيد منها حلفاؤه وغير حلفائه والتي كرّست منطق المحاصصة في السلطة. يضاف إلى ذلك أنّ الحزب هو ظاهرة أفرزتها الحرب الأهليّة في لبنان، وفي هذا هو لا يختلف عن أحزاب أخرى هي صنيعة الحرب مثل حركة أمل والقوّات اللبنانيّة والتيّار الوطنيّ الحرّ. ولكن الانتفاضة الشعبيّة لا تتّسم برفض منطق الحرب فقط، بل تطالب أيضاً بقطيعة جذريّة في السياسة مع كلّ رموز هذه الحرب. من الطبيعيّ إذاً أن يشعر حزب الله بأنّه في ضيق مع توجّه من هذا النوع لأنّ فيه بمعنى ما مساءلة لتاريخه. فضلاً عن ذلك، تضع الانتفاضة الشعبيّة النبرة على ثقافة الحرّيّة وتطالب شرائحُ واسعةٌ من مكوّناتها بوضع الدولة في لبنان على طريق إلغاء الطائفيّة وتكريس الدولة المدنيّة على نحو تدريجيّ. من النافل القول إنّ حزب الله، بفعل تنظيمه العسكريّ المحكم الذي يقوم إيديولوجيّاً على فكرة الحزب الدينيّ، يصعب عليه أن يستسيغ المنطق الجديد للانتفاضة. فالاعتصام بالنظام الطائفيّ اللبنانيّ يسهّل عليه عمليّة تجييش قاعدته فيما يمكن لفكرة الدولة المدنيّة أن تهدّد الحزب في عقر داره الإيديولوجيّ. لا بدّ أخيراً من الإشارة إلى أنّ بعض منتقدي حزب الله يعيبون عليه تلكّؤه في الانضمام إلى ورشة مكافحة الفساد لا لأنّه دخلها «متأخّراً» أو غضّ النظر عمّا قام به بعض حلفائه طوال سنوات من نهب منظّم لأموال الدولة فحسب، بل لأنّهم يعتبرونه أيضاً مستفيداً من بعض بؤر الفساد كالمعابر والتهريب، وحتّى من أزمة الدولار، ويرون أنّ لا رغبة حقيقيّة لديه في الاقتراب من هذه الملفّات ومعالجتها.

ربّما يوحي كلّ هذا بأنّ القطيعة بين الحزب والانتفاضة الشعبيّة مسألة محتومة. ولكنّ الملاحظ أنّ غالبيّة الأحزاب التقليديّة في لبنان وتلك التي أفرزتها الحرب الأهليّة بدأت تشعر بتصدّعها، وبأنّ الشارع بات في طريق تخطّيها شيئاً فشيئاً، لا سيّما إذا تسنّى للانتفاضة الشعبيّة أن تنتصر. هذا يقتضي من هذه الأحزاب أن تعيد خلق ذاتها على أسس أكثر تناسباً مع تطلّعات الجيل الذي يصنع الانتفاضة اليوم بعيونه ويديه، إذا هي أرادت ألاّ تصبح هامشيّةً على الساحة السياسيّة في لبنان. عمليّة إعادة الخلق هذه صعبة طبعاً، لأنّ الأحزاب التي تحكم البلد تعوّدت على أن تتغذّى من العقليّة الطائفيّة وهي تحتاج على هذا المستوى بالذات إلى تبدّل جذريّ في النموذج. ولكنّ هذه العمليّة ليست مستحيلة، على الأقلّ نظريّاً. وحزب الله لا يشذّ عن هذه القاعدة. فهو رغم ارتباطه بإيران، يبقى حزباً لبنانيّاً وجزءاً من النسيج المجتمعيّ اللبنانيّ، أي إنّ قيامه أو سقوطه لن يكون في طهران وقمّ وشيراز، بل في بيروت وصور وبعلبك. هل يقف حزب الله اليوم أمام مهمّة مستعجلة قوامها أن يعيد خلق ذاته كي يصبح أكثر صدقيّةً وأكثر قدرةً على المساهمة في صنع دولة حديثة في لبنان؟ وإذا كان هذا الحدس صحيحاً، هل هناك في حزب الله مفكّرون أذكياء يسعون إلى ألاّ يبقى الحدس مجرّد فكرة نظريّة لا تمتّ إلى الواقع بِصِلة؟
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024