بعد تحطيم أصنام السياسية.. ماذا عن أصنام الفن؟

يارا نحلة

الأربعاء 2019/10/23
"تسقط جوليا بطرس"، قالها قليل من المحتجّين في العام 2015، بمواجهة مكبّرات "الأرزوني" التي تذيع صوت المغنية الثورية والمرأة المتزوجة من أحد أركان النظام. مضت 2015 وجاءت 2019، ازدادت سلطة الياس ابوصعب، فأضحى أحد رجالات العهد، أما جوليا فلا زال صوتها يصدح في الساحات. المطربة التي غنّت للملايين وعاتبتها على صمتها هي اليوم صامتة ومتخفية فيما تنتفض هذه الملايين، مستخدمةً أغنياتها في إسقاط زوجها. يا لهذه العدالة!


زوج جوليا بطرس ساقط إذاً، بشهادة زوجته. لكن ماذا عن زوجته؟ أليست، بشعاراتها الزائفة التي تردّدها منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ساقطة أيضاً؟ ارتفع الهدير الخافت للمحتجين ضدّ صوت جوليا بطرس الحاضر في الساحات عما كان عليه في العام 2015، لكنه لا يزال غير قادر على الصمود بوجه مكبّرات الصوت التي، تنشد تمليه "الغريزة الثورية" للمتظاهرين. تدفعهم هذه الغريزة إلى الهتاف بـ"هيلا هيلا هو" ضدّ جبران باسيل، لتليها مباشرةً أغنية لجوليا بطرس، يغني معها الجميع مضيئين شموعاً ومتمايلين على ألحانها، في مشهدٍ يبدو كأنه مستوحى من يوتوبيا ثورية.

يعي الجميع تماهي جوليا بطرس مع النظام الذي يثورون عليه، إن كان عبر ولائها لأحد أطرافه (حزب الله)، أو عبر زواجها من أحد رموزه (صعب العَوني)، لتضحي هي بدورها رمزاً له. غير أن رمزية جوليا التي تسكن لاوعينا الجماعي، تلك التي تشربّها جيلنا منذ الطفولة مع كلّ مرّة ردّدنا أغانيها الثورية، تظلّ أقوى من إدراكنا الواعي لرمزيتها السياسية الراهنة. الغريزة الاندفاعية التي دفعت بالجموع إلى الساحات كفيلة بتعطيل التفكير العقلاني لصالح إرضاء خيالاتنا التائقة إلى عيش الحالة التي بثّتها فينا جوليا طوال عقود.

خيالات الثورة التي تراودنا منذ الأزل، من دون أن نقدر يوماً على القبض عليها في راحاتنا، ها هي اليوم حقيقة ماثلة أمامنا بصورة جماهير غفيرة انتفضت، بعد طول انتظار، على واقعها المرير. في الحقيقة، نحن لم نفعل شيئاً بعد سوى أننا كسرنا صمتاً طويلاً كنّا نلفّ به معاناتنا لاعتبارات سياسية وطائفية. إن هذه المعاناة لا تزال نفسها، والأزمات لا حلّ لها في المدى المنظور، لكن بالرغم من ذلك يعكس الشارع اللبناني، عبر موسيقاه وأجوائه الاحتفالية، حالة نشوة وانتصار بإنجازنا الوحيد حتى الآن: النزول إلى الشارع!


وقت طويل يفصلنا عن تحقيق أي من المطالب، أو الإتفاق عليها أولاً، لكن الشارع أعلن نصره سلفاً. في الأيام الفائتة، خرجت راقصة وسط الحشود المحتفلة أمام مسجد الأمين، أقيمت حلقات الدبكة من أقصى شمال لبنان إلى أقصى جنوبه، خرج "دي جي" على أهل طرابلس ليحيي سهراتهم في "ساحة النور"، اجتاح الموسيقيون الشباب شوارع بيروت بآلاتهم، غنّوا، رقصوا، طبّلوا، شتموا، وانتشوا فرحاً. بالرغم من رومنسية المشهد ووجدانيته، إلا أنه ينمّ عن "يوفوريا" سابقة لأوانها. فالغضب الذي دفع بالناس إلى الشوارع دفعةً واحدة يوم الخميس الماضي تبلور سريعاً مفسحاً مكانه لبهجة قصيرة الأمد.

المشاعر التي تولّدها الموسيقى الملازمة للإحتجاجات بالغة الأثر، بدلالة استمرار الحضور الثقيل لأغنيات جوليا في الشارع. وإن كان صدى هذه الموسيقى يعبّر عن شيء فهو إنفصال الغريزة الثورية عن الخطاب السياسي المطروح. ففي الشارع نفسه نسمع الشتائم- وهي بالمناسبة فعل غريزي أيضاً يهدف إلى التقليل من التوتر- تنهال على المسؤولين والمنتفعين منهم. ثم نستمع إلى أغنية لراغب علامة (طار البلد)، الصديق الصدوق لمعظم السياسيين وأكثر الفنانين انتفاعاً منهم، ناهيك عن وقوفه صراحة مؤخراً إلى جانب الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي (ومثله نانسي عجرم). نصغي إلى مطالب الناس بإقرار الضرائب على الأغنياء، ونتناسى أن راغب علامة هو نفسه متهرب من الرسوم الجمركية. 


في ساحةٍ أخرى، يردّد المحتجّون أغنية "من أين لك هذا؟" للمطرب محمد إسكندر، معارض الثورة في سوريا وموالي الإنتفاضة في لبنان. عبّر إسكندر عن دعمه للحراك الشعبي، لكننا نسينا أن نسأله عن موقفه من مشاركة المرأة في التظاهرات، وانشغالها عن وظيفتها كـ"رئيسة جمهورية قلبه". إسكندر الذي استخدم صوته ليثني على بشار الأسد ويهين المرأة وينبذ المثليين يصدح صوته اليوم وسط المنتفضين، نساءً ورجالاً ومثليين. فبالرغم من تحطيم أصنام السياسة، يبدو الشارع عاجزاً عن تحطيم أصنام الفنّ، أولئك الذين يشبهون السلطة بفسادها ونفاقها؛ سواءً كانت السلطة السياسية أو سلطة الموروثات الذكورية.

من جهةٍ أخرى، ثمّة أغنيات وشعارات يبدو حضورها مبرّراً للغاية، أبرزها نغمة الثورة "هيلا هيلا هو"، وذلك مردّه لبساطة الشعار من حيث اللحن والكلام، ومن حيث التعبير الخامّ والفاحش. كذلك الأمر بالنسبة لمقطع أغنية "فاكر لما تقولى هسيبك" التي تنتهي هي الأخرى بحركة بذيئة، وهي أغنية للفنان/المجاهد فضل شاكر، ولسخرية القدر أن وجود هذا الأخير يبدو أكثر صدقية من بقية زملائه الفنانين. يستحضر الشارع أيضاً إحدى أغنيات الثورة المصرية "عهد العرص" لرامي عصام والتي وجدها اللبنانيون مناسِبة جداً لوصف العهد الحالي. وعلى خلاف بيروت وبعض المناطق في لبنان، تبرز الموسيقى في طرابلس والجنوب كفعل ثوري بحدّ ذاته، وذلك بعد أن تمّ كتمها طويلاً من قبل قوى الأمر الواقع.


وعلى هامش هذا المشهد الفني السائد، تتبعثر أجواء موسيقية بديلة تشكّلت بشكلٍ تلقائي من شبان وشابات يجلسون في حلقات صغيرة لعزف الموسيقى وإرتجال الشعارات المغناة. يرافق هؤلاء راقصون ومؤدّون يتمايلون على الـ"هولا هوب" أو يتلاعبون بالنيران. في إحدى حلقات العزف، يجلس شابّ أوروبي مع آلة "هانغ" محاولاً مجاراة ألحان الرقّ والطبلة الشرقية. وبين كلّ مقطوعة وأخرى، يرى المتجمهرون يعودون للنغمة نفسها "هيلا هيلا هو". يهزّ رأسه مربكاً. ثمّ يسمع الشتيمة نفسها للمرّة الألف، فيبتسم، وكأنه فهم كل شيء.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024