بحثاً عن مار مارون

محمود الزيباوي

الأربعاء 2020/02/12
كما في كل عام، احتفل لبنان في 9 شباط/ فبراير بعطلة رسمية وعيد مسيحي، هو يوم القديس مارون المعروف بعيد مار مارون، وأغلقت المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة أبوابها في هذه المناسبة. يوصف هذا القديس عادةً بـ"أبو الطائفة المارونية" وشفيعها، كما يُعتبر "شفيع لبنان"، مع العلم بأنه لم يؤسّس مذهباً أو كنيسة، ولم يُقِم في لبنان.


في شباط/فبراير 1936، احتلّت غلاف مجلة "الجمهور" صورة جماعية تمثّل "رئيس الجمهورية اللبنانية والوزارة اللبنانية في عيد مار مارون"، كما يقول العنوان. وجاء في التعليق المرافق: "أُخذت هذه الصورة في الحفلة الكبرى التي أُقيمت صباح عيد القديس أبي الطائفة المارونية الكريمة، وهي تمثّل سيادة الحبر المفضال المطران مبارك، وإلى يمينه رئيس الجمهورية الأستاذ اميل ادة، معالي رئيس الوزراء الأستاذ خير الدين الأحدب، حضرة وزير المالية خليل أبي اللمع، وعن يساره حضرة وزير الزراعة إبراهيم حيد، حضرة وزير التربية والدفاع الأستاذ حبيب أبو شهلا، وقد جرى استقبال أركان الحكومة في قاعة الكنيسة بعد انتهاء صلاة العيد حيث تبودلت الخطب والأنخاب".

تمثل هذه الصورة مطران بيروت للطائفة المارونية مع رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة اللبنانية التي تألّفت بعد إعلان الدستور، في يوم عيد مارون. ونقع على صور مشابهة تشهد لاستمرارية هذا التقليد منذ مرحلة تأسيس لبنان الكبير إلى يومنا هذا. في الواقع، كما هو معروف، ساهمت الكنيسة المارونية بشكل كبير في تأسيس لبنان الكبير في عهد البطريرك الياس حويك حيث امتدّت حدود "متصرفية جبل لبنان" لتشمل صيدا وصور ومرجعيون وطرابلس وعكار والبقاع مع أقضيته الأربعة، وحمل البطريرك الماروني منذ ذلك العهد لقب "زعيم لبنان الأكبر"، وبات شفيع الكنيسة المارونية، القديس مارون، شفيعاً للبنان، ممّا ساهم في تطوير سيرته وصورته بشكل كبير في هذه الحقبة المتأخّرة من التاريخ.

"الموارنة، صورة تاريخية"
من هم الموارنة؟ ومن هو شفيعهم مار مارون؟. تحت عنوان "الموارنة، صورة تاريخية"، أصدرت "دار النهار" في 1970 دراسة قصيرة استقاها كمال الصليبي من محاضرتين ألقاهما، وتشكّل هذه الدراسة مدخلاً لتاريخ شائك ما زال يثير الكثير من السجالات في الأوساط الأكاديمية. بدأ ظهور الموارنة في زمن احتدام السجالات اللاهوتية التي قسّمت الكنيسة الواحدة إلى كنائس متناحرة بين القرن الخامس والقرن السابع. قال البعض بطبيعة واحدة للمسيح، وقال البعض الآخر بطبيعتين، وباتت لكل فريق كنيسة تنادي بإيمانها القويم.

جرى هذا الانقسام في زمن الحروب المحتدمة بين الروم والفرس، فسعى الإمبراطور هرقل إلى حل توفيقي يجمع الفريقين، ونادى بتفسير جديد يجعل للمسيح طبيعتين تصدر عنهما مشيئة واحدة، غير أن الفريقين رفضا هذا التفسير، و"كان من جملة الذين آثروا التمسّك بالدقة اللاهوتية في أحرج الأوقات"، بطريرك القدس صفرونيوس، الذي استمرّ في معاندة هرقل إلى أن تغلّب العرب على عسكر الروم في اليرموك العام 636، "أمّا أجداد الموارنة، فكانوا من أنصار هرقل الذين اعترفوا بأحكام الضرورة، فآثروا الدفاع عن كيان المسيحية والسعي لإعادة وحدة الكنيسة، على الدقة اللاهوتية".

المسعودي
في القرن العاشر، كتب البطريرك افتيشيوس المكنى بسعيد بن البطريق "كتاب التاريخ المجموع على التحقيق والتصديق"، وفيه ذكر "راهباً يقال له مارون"، ظهر في "عصر موريق ملك الروم"، أي موريس الأول، إمبراطور بيزنطيا من 582 إلى 602، وقال إن للمسيح "طبيعتين ومشيئة واحدة وفعلاً واحداً"، وتبعه البعض، أكثرهم من "أهل حماة وقنسرين والعواصم، وجماعة من أرض الروم، فسُمّوا التابعين له والقائلين بمقالته المارونية، مشتقّاً من اسم مارون. فلما مات مارون، بنى اهل حماة، ديراً في حماة، وسمّوه دير مارون، ودانوا بدين مارون". تحدّث المؤرخ المسعودي كذلك عن هذه الجماعة في "التنبيه والإشراف"، وقال إن مؤسسها "رجل من أهل مدينة حماة من أعمال حمص يُعرف بمارون"، و"إليه تنسب المارونية من النصارى"، "وأمرهم مشهور بالشام وغيرها، أكثرهم بجبل لبنان وسنير وحمص وأعمالها، كحماة وشيزر ومعرة النعمان". ظهر هذا الرجل في عهد ملك الروم موريق، "وكان له دير عظيم يُعرف به شرقي حماة وشيزر، ذو بنيان عظيم، حوله أكثر من ثلاثمائة صومعة فيها الرهبان، وكان فيه من آلات الذهب والفضة والجوهر شيء عظيم، فخرب هذا الدير وما حوله من الصوامع بتواتر الفتن من الأعراب وحيف السلطان، وهو يقرب من نهر الأرنط (أي العاصي)، نهر حمص وأنطاكية".

يذكر المسعودي في هذا الصدد انه كان لأحد الموارنة، "ويُعرف بقيس الماروني، كتاب حسن في التاريخ وابتداء الخليقة والأنبياء والكتب والمدن والأمم وملوك الروم وغيرهم وأخبارهم، انتهى بتصنيفه إلى خلافة المكتفي". ويؤكد العالم العباسي أنه لم ير "للمارونية في هذا المعنى كتاباً مؤلفاً غيره"، "وقد ألّف جماعة من الملكية والنسطورية واليعقوبية كتباً كثيرة ممن سلف وخلف منهم". في الخلاصة، لم يحفظ لنا التاريخ كتاب قيس الماروني هذا، وما نعرفه عن تاريخ الموارنة مصدره مؤلفات السريان والروم أولاً، ثم الفرنجة في مرحلة الصليبيين. في استعادته لهذا التاريخ، يخلص كمال الصليبي إلى القول بأن الموارنة أصبحوا طائفة مستقلة لها كيانها الخاص بعد ظهور الإسلام على الأرجح، واستمروا في قبول مذهب المشيئة الواحدة، "على الأقل في شكله البدائي المتشدد على الفعل الواحد، من دون تحديد للمشيئة، ظناً منهم أنه المذهب الصحيح المقبول به من القسطنطينية ورومية". في العام 680، أقرّ المجمع السادس تحريم القول بالمشيئة الواحدة، وأكّد القول بالمشيئتين، بينما "استمرّ القول بالمشيئة الواحدة بين الشعب الماروني قرونا طويلة".

اللقاء الأول بين الموارنة والفرنجة
انتشر الموارنة في وادي العاصي حتى القرن العاشر. ومع نجاح الحملات البيزنطية في بسط سلطتها على أجزاء كبيرة من شمال سوريا لمدة قرن كامل، "اختفى الموارنة من وادي العاصي أو كادوا، ولم يبق لهم موطن خارج جبل لبنان، إلا حلب، التي لم يوفّق الروم في أخذها". وهكذا "أصبح الجزء الشمالي من جبل لبنان، الموطن الأساسي للموارنة، ومركز كنيستهم الدائم ابتداء بالقرن العاشر". انطلقت أولى الحملات الصليبية في 1095، ودخل الفرنجة بلاد الشام، ووصلوا إلى عرقا، قرب طرابلس، العام 1099، "فنزل الموارنة لاستقبالهم هناك يوم عيد الفصح، في 10 نيسان، وهكذا تمّ اللقاء الأول بين الموارنة والفرنجة، فتصادق الفريقان واستمرّت علاقات الود بينهما طول مدة وجود الفرنجة في بلاد المشرق". في العام 1180، اجتمع رؤساء الموارنة ببطريرك انطاكية اللاتيني أمريكوس، وأعلنوا قبولهم بإيمان الكنيسة الرومانية ودخولهم في طاعتها. بعدها، حضر البطريرك الماروني أرميا العمشيتي إلى روما، وعاد منها حاملاً بركة خاصة من البابا ورسالة منه وقُّعت العام 1216، وتُعتبر هذه الرسالة أقدم وثيقة معروفة تتعلّق بتاريخ الطائفة المارونية ككنيسة قائمة بذاتها.

عاشت هذه الكنيسة عهداً عصيباً في زمن المماليك، غير أنها ثبتت وحدها من بين البيع الشرقية في طاعة روما، فكافأها البابا أوجينيوس، واعترف ببطريركها بطريركاً على الكرسي الانطاكي. توطّدت هذه العلاقة في زمن العثمانيين، حيث ظهرت طبقة أولى من العلماء الموارنة الذين سعوا الى تثبيت كنيستهم وتقويتها ونبذ كلّ ما يذكّر بـ"المشيئة الواحدة"، وكان على رأس هؤلاء العلامة أسطفان الدويهي الذي تلقّى علومه في روما، وانتُخب بطريركاً على الموارنة في 1670. بحسب دراسة وضعها الباحث الفرنسي، اوريليان جيرار، في العام 2007، كان اسطفان الدويهي أول من جعل من القديس مارون الناسك شفيعاً للكنيسة المارونية بشكل وثيق، وذلك بعدما شرعت روما في دراسة مجموعتين قيمتين من محفوظاتها الشرقية في نهاية القرن السادس عشر. أظهرت هذه الوثائق ثبات دير سوري باسم "المغبوط مارون" في الإيمان المستقيم في النصف الأول من القرن السادس، وبدأ الربط بين هذا الاسم واسم قديس ناسك يحمل اسم مارون، ذكره في القرن الخامس المؤرخ تثيودوريتوس أسقف قورش في كتابه "تاريخ أصفياء الله" الذي نُقل إلى اللاتينية في 1555. دخل شهداء دير المغبوط مارون "موسوعة الشهداء" في روما سنة 1586، وبدا يومها ان هذا المغبوط ما هو إلا مارون الناسك، الذي دوّن ثيودوريتوس أسقف قورش سيرته، بشكل مقتضب، في النصف الأول من القرن الخامس. وفي 1608، أضيفت هذه المقولة إلى مقدمة الكتاب الطقسي الماروني للمرة الأولى، وذلك على أيدي إثنين من أعلام الموارنة، درسا في روما، وهما جبرائيل الصهيوني ويوحنا الحصروني. غير أن الدراسات المتلاحقة في زمننا تشير إلى "أنه كان يوجد العديد من الأديرة التي تحمل اسم مارون في سورية، لكنّها لا تشير بالتحديد إلى أنها سُمّيت نسبة إلى الناسك مارون"، كما أكّد متي موسى في أطروحته "الموارنة في التاريخ".

تحت قبّة السّماء
لم يعرف ثيودوريتوس أسقف قورش، القديس البار مارون الناسك، غير انه استقى سيرته من تلميذه يعقوب مباشرة، وأوردها بشكل مقتضب في كتابه، وقد عرّب مارون مطر وخليل الهندي هذا الكتاب في زمننا، وأضافا في الهامش الخاص بسيرة مارون: "ان اختصار المعلومات الواردة هنا، والأماكن العامة التي حصلت فيها، لا تتناسب مع الأهمية التي نسبها التقليد اللاحق إلى هذه الشخصية". بحسب شهادة أسقف قورش، كان مارون الناسك "زينة في خورس القدّيسين الإلهيِّين. وكان، حبًّا بالحياة ‏تحت قبّة السّماء، قد اتّخذ له رابية كانت في الماضي كريمة لدى قوم من الكافرين، حيث كان ‏هيكل للشياطين. فحوّل ما فيه إلى عبادة الله. ثمّ ابتنى لنفسه صومعة حقيرة يلجأ إليها في ظروف ‏نادرة. وكان لا يكتفي بممارسة الأتعاب الشّاقة. وكان الذي يكافئه على الأتعاب يغمره بالنعمة". مَنَّ الله على هذا الناسك بموهبة شفاء المرضى، "وكان لا يكتفي بشفاء عاهات الجسد فحسب، بل كان أيضاً يأتي للنفوس بالعلاج المفيد، شافيًا ‏هذا من داء البخل، وذاك من الغضب، مانحاً هذا التعليم المؤدّي الى الحكمة، وواضعًا لذاك ‏الإرشادات إلى الفضيلة، مروّضاً ميوعة هذا، ومنعشاً ذاك من كسله".

رقد مارون الناسك البار في عمر متقدم بعدما "انتابه مرض ‏بسيط أودّى بحياته، وقام نزاع شديد بين ‏القرى المجاورة رغبة من كلّ منها في الاستيلاء على جثمانه. لكن كانت هناك على الحدود، ‏بلدة كثيرة الرّجال اقبلت بأسرها، وبدّدت الآخرين وانتزعت منهم الكثير المرغوب فيه جداً ‏فشيّدوا له عندهم مقاماً فخماً". هذا كل ما يقوله الراوي، ومن الواضع ان هذه السيرة "الروحانية" القصيرة التي وضعها تخلو من المعطيات الجغرافية الجلّية، وهذا ما يُفسّر تباين آراء المؤرخين الذين سعوا إلى تحديد الأمكنة ‏الجغرافيّة التي شكّلت مسرحاً لها بشكل دقيق.
في الخلاصة، عاش مارون الناسك ومات ودُفن في مقاطعة قورش في شمال سورية، في القرن الخامس، وتُعرف قورش اليوم باسم النبي هوري، وتقع بين مدينتي عفرين شرقاً، وحلب غرباً. لم ينشئ هذا القديس جماعة، ولم يبنِ ديراً، غير أنه أضحى في الأزمنة اللاحقة أباً لطائفة الموارنة، وهذا ما أشار إليه المطران يوسف الدبس في مطلع القرن الماضي حين افتتح كتابه "الجامع المفصل في تاريخ الموارنة المؤصل" بالقول: "نبدأ تاريخ الموارنة بمناقشة القديس مارون، الذي يُعدّ أبا هذه الطائفة وشفيعها".

مع ولادة لبنان الكبير، حمل البطريرك الماروني لقب "زعيم لبنان الأكبر"، فأضحى شفيع الكنيسة المارونية، شفيعاً للبنان، وأدّى ذلك إلى وضع سيرة مسهبة له غنية بالتفاصيل والأسماء والمواقع.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024