انقطاعات كلير ماران: بَلوى السريرة والولادة

روجيه عوطة

الخميس 2019/08/22
من الممكن وصف كتاب كلير ماران(*) بأنه كتاب فطن، وفطنته لا تتعلق، فقط، بموضوعه، أي الإنقطاع، الذي تجمعه الفيلسوفة، فتجعله "إنقطاعات" على اختلاف وتوزع، وفي الوقت نفسه، تقارب وتداخل. إنما، وأيضاً، لأنها، وحين تعالجها، تذهب بها إلى حدٍ، لا تكون عليه مجرد مواقف في العيش، أو أوضاع منه، فتتطلب تحفيزاً شخصياً حيالها، لكنها تحضر كواقعات متكاثرة ومتناثرة في رحابه.

على هذا المنوال، تبدأ ماران حديثها في الانقطاعات، التي، وعندما تبحث عن أولها، تنظر في إنقطاع أساس ومؤسس منها، وهو، وعلى العلم والبداهة، انقطاع الولادة. إذ إن حصولها، أو بالأحرى إتمامها، يستلزم انقطاعاً عن حضنٍ، إن طال البقاء فيه ينقلب دفؤه تهشيشاً وخنقاً. هذا الانقطاع، رغم قسوته التي تتشكل صراخاً، هو الذي يمهّد السبيل إلى الحياة، ومن بعده، يحدث كرات ومرات، لكي -وهنا علامة من علامات فطنة الكتاب أيضاً- لا أن يحمل على السبيل نفسه من جديد، بل، وقبل هذا، أن يخلص من السابق عليه، ويرمي فاعله، الذي قد يكون ممارسه، أو المجبر عليه، أو المعرض له، بينهما، أي بين السبيلين.

في هذا المطرح، ثمة ما يصيب الفاعل، وهو ما تدعوه ماران بـ"البلوى الجوانية": اقترابه مما خلفه الانقطاع فيه، وهو شق شبيه بباب مفتوح على سريرته، ولا يمكن له سوى أن يجتازه إليها. حينها، يبتلي بسريرته، وفي إثر ذلك، لا يعود مثلما كان قبل مذهبه إليها، وغرة تحوله هي انهياره، أو شعوره بأنه كان ممسوكاً بحبال، أو واقفاً على بسيطات، وقد فلتت أو اختفت. بالتالي، يسقط، وما أن يصل إلى أرض توقف سقوطه (على ما حدد باشلار معنى الأرض)، حتى يعتريه الدوار، الذي يشي بأنه في سياق تكيفه مع ما حصل له. عن مساره هذا، ينم ألم شديد، يصعب ألا يعبر عنه أثناء عبوره فيه. لكن، وعلى قول ماران، من الصعب اليوم ان يجد التعبير هذا طريقه إلى العلن، بل ان التشجيع على اخفائه يطغى. ليس لأنه إشارة هوان، لكن إشارة إلى انفراطٍ، يعتري تماسكاً متخيلاً. التعبير بعينه يستكمل تحول المنقطع، بحيث انه، وفي نتيجته، يبدأ بالتحدد، بمعنى رسمه لحدود حاله، وشروعه في التولد خلفها.
 
تقول ماران ان مسار الانقطاع هذا لا بد أن يصير طريقة حياة، لا سيما انه الأكثر ملاءمة مع الاجتماع الراهن، الذي يتسم بتزعزعه، أو بالأحرى بتفتته، بالكامل. من المسار الى الطريقة، يصير الانقطاع فرصة من أجل اكتشاف حيوات جديدة، متعددة، وهذا، في ظنها، هو تعريف النضج، الذي يقوم بأمر بعينه: القبول بأن الأنا ليست وحدانية، وأن مسعى وحدانيتها مخفق سلفاً. هكذا، يغدو الانقطاع إنتاجاً، وبعبارة تستخدمها الفيلسوفة عن نيتشه، للـ"قوة اللدنة"، التي تسمح للفاعل أن يتشكل على نحو آخر، مغاير لما كان عليه من قبل، ومحوره طفولته الخلاقة، التي تعينه على تكوين صلات لا تشبه صلاته المنصرمة بتاتاً.

لا تعين مارن الانقطاع بكونه عاطفياً، أو مهنياً، أو عائلياً، بحيث أنه على كل هذه المقالب، وغيرها، مثلما أنه، وعلى إثر الابتلاء بالسريرة، الذي يودي إليها، يصيب الجسد أيضاً. فتخصص له الفيلسوفة قسماً واسعاً من حديثها، إذ إنه يسجل مفعول الانقطاع، وقبله، مفعول الاحساس بضرورته من دون الإقدام عليه. فبالانقطاع، وعنده، يكون الجسد بلا غيره، بلا ركيزة من ركائزه، وبالتالي، تثقل حركته، أو تسرع، كما أن الشيخوخة قد تداهمه، مثلما أن الشباب قد يرجع فيه. لكل انقطاع جسده، وقد تصح الإضافة ان لكل جسد انقطاعه، الذي يدفعه إلى القفز، واقعاً على نفسه، وبالتالي، متألماً، صارخاً، كأنه ولد للتو.

(*)Claire Marin, Rupture(s)- L'Observatoire, 2019 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024