لماذا لا تعتبر موسيقى التكنو فناً؟

علاء رشيدي

الإثنين 2015/08/31
تختلف آليات الشعوب، في تعريف "الثقافي" في حضاراتها، فما يعرف على أنه "ثقافي" لا بد وأن يكون فاعلاً في التكوين الفكري والفني للمجتمع. وكذلك "الثقافي" يكون نشاطاً اجتماعياً يقوم به الأفراد (الذهاب إلى المسرح، طقس الذبيحة..إلخ).

وبينما تصر الثقافات الضعيفة أن العادات والتقاليد فقط هي الأشكال الثقافية لا غير، (نذكر مسرحية زياد الرحباني، بعنوان "شي فاشل" الساخرة من إرث "أبو الزلف" وجرة الضيعة التي تشكل الإرث التقليدي اللبناني)، تحاول الحضارات الأكثر الحيوية أن تدمج ما أمكنها الأنشطة الاجتماعية الحديثة مثل: طقوس وعادات اللاجئين، الأنشطة الجماهيرية الحديثة في ثقافتها، لتتمكن أن تدمجها في الحضارة، كفعل انساني ومكون فكري، وحس فني.

بيروت مدينة تستقبل العديد من الدي جي العالميين كل عام، لكن الصحافة، التلفزيون، وحتى الأجندات الثقافية لا تعتبر حفلة موسيقي التكنو حدثاً ثقافياً، وتخلو المجلات من أي مقالات عن هذه الحفلات الفنية الموسيقية، رغم أن الحفلة الأخيرة في بيروت للموسيقي (نيكولاس جار، ألبوم: الفضاء مجرد ضجيج، 2001)، حضرها ما يقارب 3000 مستمع لبناني، خصوصاً من الشباب والشابات، أولئك الذين يدعي السياسيين بإستمرار محاولة التواصل معهم من دون جدوى. عدد الحضور هذا لا يحلم بتحقيقه أي حدث ثقافي آخر، مجدول في الصحافة والمسارح. ويصعب على أكبر الأحزاب السياسية أن تجمع، حول خطاباتها وبرامجها، ما اجتمع من معجبين بهارمونيات الموسيقي التشيلي الأميركي نيكولاس جار.


تأليف موسيقى التكنو 
من موسيقيي التكنو من يمزج الموسيقى Mixing، ومنهم من يؤلف Composing، وفي الحالتين أي موسيقي في تاريخ الموسيقى، مؤلفاً كان أو عازفاً، هو تقني يعمل على آلالات ضمن ايقاع، زمن، لحن، تراكب، هارموني، وعوالم جمالية. وهذا هو تعريف الفيلسوف هيغل تقريباً للموسيقى، فلماذا لا تهتم الصحافة اللبنانية، بإيقاع، وجماليات، وتراكيب (ديكسون، مقطوعة: أوف ليميت، بلا حدود 2000،2001) والتي تلعب دوراً في بنية تفكير وإيقاع ما قارب 2000 شخص، استمعوا بمتعة إلى هارمونياته اللحنية في الغارتن – بيل، الشهر الماضي.

حتى الشبان والشابات المعجبون، والميالون إلى هذا النوع من الموسيقى، لا يدركون ولا يصنفون ذهابهم إلى الاستماع إلى (كارل غريغ، ألبوم المزيد من الموسيقى عن الطعام والفن الثوري، 1997)، وهو الذي قدم موسيقاه في مدينة الموسيقى، باريس، بمرافقة أوركسترا وتريات، وأصدر سي دي "إعادة تأليف" بالتعاون مع موريتز فون أوزولد، 2008، مع شركة غرامافون الأشهر في إصدار الأعمال الموسيقية الكلاسيكية.

نجد جيلا زاخراً بمعرفة أسماء موسيقيين، وحركاتهم الفنية، والمدن التي أتوا منها، وهم لا يقدرون هذه المعرفة المتراكمة، والتي تمكن من التواصل مع المشهد الفني من العالم. فأسماء المهرجانات الموسيقية، أماكن الموسيقى التكنو الأشهر، شركات الانتاج، وبرامج الراديو المتعلقة بالموسيقى التكنو، هي أرضية معرفية مع العالم الآخر يستحق الكتابة عنها، وادخالها في حيز الاهتمام النقدي، والثقافي.


موسيقيو التكنو وبيروت المدينة 
لماذا لا تعتبر زيارة (جون ديغويد، سلسلة التحول Transition، 2006، 2007، 2008) إلى بيروت، كما لو أن لودفيغ بيتهوفن وصل إلى فايمار، وتدرب مع الأوركسترا لتقديم سمفونية ما، وديغويد اليوم يدير برنامج راديو موسيقي بعنوان "التحول"، Transition، يتابعه عدد غير مقدر الكثافة على الانترنت، ومن أنحاء العالم، كل ثلاثاء.

يمر المؤلفون المبدعون في بيروت، الذين يعربون عن حبهم لها، من دون أن تذكرهم الصحف أو تهتم بهم المؤسسات الثقافية، بينما يمسون الآلاف من جماليات وآليات تفكير الشبان والشابات، ربما أكثر مما يؤثر أي عرض مسرحي في المسارح التقليدية...

"ربما لأنها تجري ليلاَ"، أجابني أحد المسؤولين عن انتقاء برنامج الدي جي القادمين هذا الصيف إلى عدد من الأماكن، "ربما لأنها تجري متأخرة في الليل؟"، فبالنسبة إليه يجب تحقيق التوازن في الموسيقي المدعو بين الكسب المادي، والجمالية الموسيقية، وهو لا يعي كيف يمكن للنقد والكتابة عن القطع الموسيقية، وتحليلها، تفهم الذائقة وعلم الجمال الموسيقى.

قدم الاسبوع الماضي إلى الغارتن في "بيال"، الدي جي والمنتج الموسيقي الأميركي (سيث تركسلورر، مقطوعة الحب لا يمكن أن ينام، 2008) الذي حصل على العديد من الجوائز الموسيقية والتصنيف العالمي، والذي يمثل تياراً جديداً في مدرسة ديترويت التكنو، التي ما زالت مؤثرة منذ الثمانينات والتسعينيات. وقبلها في "سبورتينغ" الروشة، الثنائي ( م.ا.ن.د.ي، ألبوم في التحكم 2006). والدي جي والمنتج الإيراني الأميركي علي شيرازينيا، المعروف بلقبه الفني (الداب فاير، ألبوم الانتقال Transmission 2013 ) والحاصل على لقب أفضل موسيقي مينمالي، وأفضل موسيقي تكنو لعدة أعوام، عدا عن اسهاماته في اضافة جماليات موسيقية على موسيقى التكنو، جاء إلى بيروت وغادرها، بلا التفات من المحلّلين الموسيقيين اللبنانيين. وكذلك غريغ ريتشارذ، (ألبوم الطاغية، 2004،)، وأحد المشرفين على واحدة من أهم السلاسل الموسيقية، وهي سلسلة سي دي (فابريك، لندن)، وشارك فيها، في السي الدي الأول، فابريك 01، فابريك 15 بعنوان الطاغية، فابريك 58 بعنوان لا شيء مميزاً).


تكنو من لبنان
والأكثر أهمية في هذا الحقل الفني الثقافي أن بيروت ليست فقط مدينة لاستقبال الفنانين الموسيقيين، وإنما تملك فنانينها الذين لعبوا الموسيقى إلى جانب العديد من الموسيقيين، والذين تقدر جمالياتهم، وبناهم الموسيقية، واقتراحاتهم اللحنية، مثل غانتر وستامنا، الثنائي الهارموني الذي لعب لفترة طويلة في BO18 في الكارنتينا، أحد أفضل الأمكنة في الشرق الأوسط من حيث هندسة الصوت، وتوزيعه، ودقته. وقد أخبرني بعض الأصدقاء الفرنسيين في 2007، بأنهم يعتبرون حانة BO18، مكاناً سياحياً في بيروت، وهو الذي صمّمه المهندس اللبناني الشهير برنارد خوري، وصوّر فيه المخرج الوثائقي السوري عمر أميرالاي لقطات مع رئيس الوزراء رفيق الحريري، في فيلمه عنه "الرجل ذو النعل الذهبي، 2000".

كذلك يلعب اليوم الدي جي زياد غصن، (تراك بكاء الحيتان، 2014) في عدد من المدن العربية والأوروبية، وفادي فراية، (مقطوعة حكايات لوقت الليل، 2009)، والذي أسس علامته الموسيقية الستقلة غوسبومبز في العام 2007، وهي مقيم بين بيروت، وأمستردام هولندا، حيث يقدم موسيقاه.

إن الظواهر الفنية التي تلعب دوراً في تشكيل حدث ثقافي، تتوالد في الحضارة والمجتمع بأشكال متعددة منها الديني، الطقسي، الغاياتي، والمتعي. وإهمال تحليل نوع فني، كالتكنو، يستمتع به 3000 مستمع في الليلة الواحدة، يؤشر على مدى الانفصال بين المعاش والمنظر له، بين الصحافة والواقع الاجتماعي...

 

 

 

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024