قاسم سليماني.. الذي نراه في كل مكان

لبنى الراوي

السبت 2020/01/04
يذكر الصحافي ديكستر فلكنز في مطبوعة "ذي نيويوركر" الأميركية أنه في العام 2011 استخدم قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، عصابة مكسيكية تتاجر بالمخدرات بهدف تفجير السفير السعودي إلى الولايات المتحدة حين كان يتناول الطعام في مطعم على بعد كيلومترات قليلة من البيت الأبيض. ولكن تبيّن أن رجل العصابات الذي لجأ إليه عميل سليماني كان مخبرًا لإدارة مكافحة المخدرات الأميركية. رغم ذلك، قال مسؤولان أميركيان سابقان للجنة تابعة للكونغرس إن من الضروري اغتيال سليماني، رغم فشل المؤامرة. ذكر أحدهما: "نراه في كل مكان. نالوا منه. حاولوا اعتقاله أو اقتلوه". أما في إيران، فوقّع أكثر من مئتي شخصية بارزة رسالة تنديد تدافع عنه. وقد أعلنت حملة في مواقع التواصل الاجتماعي: "كلنا قاسم سليماني". وقبل ثلاثة أشهر أكد يوسي كوهين رئيس الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) أن اغتيال قاسم سليماني"ليس مستحيلا"، لكنه أوضح أنه ليس مستهدفا من الموساد، وذلك بعد ادعاء إيران إحباط محاولة لاغتيال سليمان، متهمة أجهزة استخبارات إسرائيلية وعربية بالتخطيط لها. وبينما كشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية، أن سليماني، كان هدفا لعملية سرية قادتها قوات أميركية خاصة، بينما كان يقود سيارته وسط قافلة من إيران إلى شمال العراق في يناير 2007. وقالت الصحيفة، إن سليماني، الذي كان وقتها كبير قادة الأمن والاستخبارات في إيران، أفلت من القبضة الأميركية، أو بالأحرى، فإن القبضة الأمريكية هي التي أفلتته، حيث تراجع قائد المهمة عن قراره بقتله في الأمتار الأخيرة، وفقا لرواية الصحيفة.

وبالعودة الى مقال ذي نيويوركر لا أعتقد أن هذه الصورة التي رسمها ديكستر فلكنز قبل سنوات، بعيدة مما حصل في بغداد بعد اغتيال "حجي قاسم". هذا الجنرال الذي كنا نراه في كل مكان فعلاً. ففي أوج حرب المدن والبلدات في سوريا والعراق، وبعد الانتهاء من تدمير كل مدينة (خصوصاً حلب) إثر حرب ضروس بين المسلحين المعارضين والجيش الأسدي وأتباعه، كان الجنرال الإيراني قاسم سليماني، يطل في الميدان من خلال الصور، بشعره أبيض، ولحيته المشذبة جيدًا، و"عيناه تشعان تحفظًا وحذرًا"، كما كتبت "ذي نيويوركر". كان يطل بطريقة استفزازية، "هادئة" ترشح زيتاً مقدساً، كل صوره توحي بأن عدداً قليلاً من المرافقين يمشون معه، مقارنة باسمه الضخم في صناعة الحروب والمكائد والنزاعات والتوترات. كان حضوره نوعاً من تشجيع ايديولوجي للقتال، فهو في معظم ثقافته يحفز على "الشهادة" بمفهومها الديني، ويناصر أبناء الشهداء وعائلاتهم، ويعتبره المرشد الأعلى "شهيد الثورة الحي"، منذ ما قبل مقتله بزمن. حين كنا نرى صوره في الميدان، كان دائماً يخطر في بالنا سؤال: هل هذه شجاعة الرجل؟ أم أن حضوره المباغت أحياناً، والمتوقع في أكثر الأوقات، إيحاء بأن الشبح الإيراني أصبح هنا، أن الثورة الخمينية على الأبواب... كل صورة لسليماني في الميدان كانت تعادل توقيعه على تدمير مدينة أو منطقة، مقبرة جديدة تتسع لآلاف الأشخاص. وكل زيارة لسليماني إلى عاصمة عربية من العواصم التي تقول إيران إنها تسيطر عليها، كانت إشارة إلى إسقاط حكومة أو تشكيل حكومة. كان يتعمد الأفعال الهمجية ومن ثم الصور "البسيطة" مع المقاتلين في الجبهات، سواء ريف حلب أو ريف حماة، أو الحدود السورية العراقية، أو كردستان أو بغداد، وحتى بيروت.

أحد الأصدقاء أخبرني ذات مرة أن سليماني في تعاطيه مع الشرق الأوسط كان مثل غازي كنعان، قائد جهاز الأمن والاستطلاع للقوات السورية العاملة في لبنان، والذي كان يصنع الحروب والفتن ويدمر المدن، يدبر المكائد والمصالحات ويتدخل في تعيين هذا الموظف وانتخاب ذاك المختار، ويظهر نفسه حامياً ووصياً. سليماني المتدرج من عاشق لكمال الأجسام، وسقاء الجنود في بداية حرب الخنادق بين إيران والعراق، والمستطلع على الجبهات و"سارق الماعز" لاحقاً، تولى قيادة فيلق القدس قبل أكثر من 20 سنة. سياسته أدواتها رشوة المسؤولين في الشرق الأوسط، "تخويفهم عندما تدعو الحاجة، وقتلهم كحلٍّ أخير"(بحسب ذي نيويوركر). وهو سعى منذ ذلك الحين إلى "إعادة صياغة الشرق الأوسط بما يتناسب مع مصالح إيران" (لاحظواً جيدا هذه العبارة)، وهذا ما سُمي "الهلال الشيعي" الذي يمتد من إيران الى العراق والبحرين وسوريا ولبنان. وعمل سليماني كوسيط داعم وقوة عسكرية وتوجيه لمجموعات مقاتلة تتشكل من "حزب الله" وقوات "بدر" و"النجباء" الى "الحشد الشعبي"، وفي سوريا هناك ألوية زينب و"فاطميون"... كان سليماني مهندس صياغة الشرق الأوسط الجديد على الطريقة الإيرانية، وهو سبق نظرية الأميركية كوندوليزا رايس والشرق الأوسط الجديد على الطريقة الأميركية. وما بين "تصدير الثورة" على الطريقة الإيرانية الخمينية الحرسية، و"الفوضى الخلاقة" على الطريقة الإدارة الأميركية، مئات المدن والبلدات المدمّرة، ملايين الضحايا والمشردين في العراق وسوريا واليمن ونسبياً لبنان، خصوصاً في "حرب تموز" التي كان "حجي قاسم" أبرز المشرفين عليها...

والمنافسة بين الفوضى الخلاقة الأميركية، وتصدير الثورة الإيرانية بلغت ذروتها بعد 11 أيلول 2001. وبعد الحرب على أفغانستان، وإسقاط صدام حسين العام 2003، ومع الإخفاق الأميركي في إرساء الاستقرار في العراق، أطلق سليماني حملة ترهيب قاسية، سواء في بناء خلايا لتنظيم القاعدة او في تأسيس مليشيا عراقية موالية لإيران. بدا سليماني، أحياناً، مسروراً بالسخرية من نظرائه الأميركيين، رغم التعاون في أكثر من موضع، خصوصاً في أفغانستان (تلاقت إدارة البيت الأبيض مع نظام ملالي إيراني في محاربة عصابة طالبان المتطرفة). وفي خضم الأزمة العراقية، وتشعب الجماعات المقاتلة ضد الأميركيين (بعثية وايرانية وقاعدة)، كان سليماني يشتغل شغله في نحت "الخوازيق" للأميركيين، وخلال "حرب تموز" بين إسرائيل وحزب الله في لبنان في صيف 2006، تراجع العنف في بغداد. وعندما انتهى القتال، نقلت "ذي نيويوركر" أن سليماني بعث، على ما يُفترض، برسالة إلى القائد الأميركي ورد فيها: "آمل أن تكون قد استمتعت بفترة السلام والهدوء في بغداد. كنت منهمكاً بما يدور في بيروت". كان حجي قاسم ماكراً ويعرف كيف يستفز خصمه، وكيف يستدرجه للوقوع في فخه.

في 22 ديسمبر 2010، هنّأ جيمس جيفري، السفير الأميركي إلى العراق، والجنرال لويد أوستن، القائد الأميركي الأعلى في العراق، الشعب العراقي بتشكيل حكومة جديدة بقيادة نوري المالكي. بدا أن حجي قاسم استدرج الأميركيين إلى فخ حكومة المالكي، بعد إقصاء العلماني إياد علاوي المقرب من العرب، صاحب الحق في تشكيل الحكومة لأنه يملك الأكثرية النيابية. تقول "ذي نيويوركر" نقلاً عن جيفري وأوستن: "نتطلع بشوق إلى العمل مع الحكومة الائتلافية الجديدة بهدف تعميق رؤيتنا المشتركة عن دولة عراقية ديموقراطية". لكنهما أغفلا ذِكر أن الصفقة الأساسية التي أدت إلى ولادة الحكومة العراقية لم تكن من صنعهما، بل من صنع سليماني الذي وضع شروطاً لتشكيل الحكومة. الأول أن يصبح (الراحل) جلال طالباني (صديق النظام الإيراني القديم) رئيساً، والثاني أن يصر المالكي وشركاؤه في الائتلاف على رحيل الجنود الأميركيين من البلد. حين أصدر جيفري تهنئته، طردهم سليماني من البلد، إلا أنهم خجلوا من الإقرار بذلك علانية. لم تقر إدارة جورج دبليو بوش الحمقاء بأنها سلّمتْ العراق إلى الإيرانيين، وأتت من بعد إدارة باراك أوباما لتسلمهم الشرق الأوسط على طبق من فضة...

وبعد زمن من الأخذ والرد وتسجيل النقاط هناك وهناك، وبعد تراكمات من الحرب الناعمة والحرب بالواسطة، وجعل شعوب الشرق الأوسط حقلاً للتجارب في تنفيذ المعارك وضرب الصواريخ، بدت الرأس الكبيرة (سليماني) بالنسبة لـ"سيدة الامبريالية العالمية" أو "الشيطان الأكبر" بحسب التسمية الخمينية، تحتاج كبسة زر في خضم الحرب الذكية التي تتشكل أدواتها من طائرات بلا طيار، وأحياناً أدوات ثقافية وجواسيس. كبسة زر كانت كافية لذبح "رجل الظل" (لقب سليماني) وصاحبه معاً، وإنهاء أسطورته. لنراقب جيداً الطريق الذي كان يسلكه قبل مقتله أو اغتياله أو تصفيته. فهو الإيراني في بيروت، ذهب إلى العراق عبر سوريا، وقُتل في بغداد، وهو بذلك ينضمّ إلى سلسلة أساطير عرفنا أفعالها بقوّة (عماد مغنية، مصطفى بدر الدين)، ولا نزال نبحث عن أسرارها...

بالطبع، ورغم كمّ الخراب في الشرق الأوسط، سيخرج بعض المفكرين والكتّاب والكتبة الذين يعيشون في ظل الامبريالية وعرينها ورحابها ويكتبون في صحفها ويعلّمون في جامعاتها، ويتحدثون عن أمجاد سليماني في المقاومة ومحاربة الامبريالية العالمية، وسيحذروننا من "وضع" يدنا في اليد الأميركية، وإلى ما هنالك من دروس ممجوجة في الوطنية، وهم يعرفون جيداً أن "الفوضى الخلاقة" و"تصدير الثورة"، "طنجرة ولاقت غطاءها" في الشرق الاوسط.

حجي قاسم أسطورة فعلاً، لكن الأسطورة أيضاً تموت..
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024