جاذبية سري: سبعة عقود بعد إنجاز كل شيء

شادي لويس

السبت 2021/11/13
قبل وفاتها بأسبوعين أو أكثر بقليل، كنت أقف للمرة الأولى أمام إحدى لوحاتها. أعرف أعمالها جيداً من الكتب، لكن هذه المرة الأولى التي أرى فيها واحدة منها عياناً. لدي مكتبة فنية صغيرة، معظمها كتب عن مدارس فنية أو عن مجموعات من الفنانين. لا أحبذ الكتالوغات الفردية، لكنني امتلك واحداً منها فقط، بعنوان "جاذبية سري: شهوة اللون"، كتالوغ لأعمالها بالإنكليزية من إصدار الجامعة الأميركية في القاهرة العام 1998.

المكان لم يكن متوقعاً، أقصد لم أنتظر أن أرى لوحة من أعمالها هناك، في عمّان، ولم تكن وحدها بل مع عشرات من الفنانين المصريين الآخرين.

ينقسم المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة إلى قسمين: مبنيان متقابلان وبينهما ميدان صغير، تتوسطه حديقة رملية. واحد من المباني يعرض تشكيلة من الأعمال لفنانين من حول العالم العربي ودول الجنوب. أما المبنى الآخر فمخصص للفنون الأفريقية، وبمجرد دخولي إلى طابقه الأول، أمكنني، وبشكل تلقائي التعرف على واحدة من اللوحات المعلقة مقابل المدخل. كانت واحدة من أبقار راغب عياد، أحد الأربعة الكبار في جيل الرواد المصري. لم أرَ تلك اللوحة من قبل، لكنني عرفت أنها له بمجرد رؤيتها. يطلقون على هذا الظاهرة نصف الغامضة، "الأسلوب"، تركيبة العناصر الخاصة من تقنيات وخيارات وألوان وموضوعات، والتي حين تتقاطع تنتج علامة دامغة لفنان بعينه، فيمكن تمييزها من دون جهد، وبشكل أقرب إلى العفوية. المدهش أنني بدأت في التعرف على لوحة بعد الأخرى، لفنانين مصريين، من جيل الرواد محمد ناجي، ومن الجيل الثالث، إنجي أفلاطون، وكذلك لوانلي وحسين بيكار وجورج بهجوري.. كانت نسبة كل لوحة منهم إلى فنانها أمراً بسيطاً وتلقائياً، احتجت فقط قراءة الإشارة التعريفية بجانب كل لوحة للتأكد من تخميني، وكان صحيحاً في كل مرة.

لوحة واحدة فقط لم أكن متيقناً منها، اقتربت وقرأت الاسم.. جاذبية سري. لا تشبه اللوحة أياً من أعمالها الشهيرة، النساء الشاخصات إلى الخارج، بقوة وتحدٍ، بخطوطها السوداء الثقيلة المحددة للوجوه والأجسام، تلك اللوحات التي رسمتها بعد تخرجها مباشرة في مطلع الخمسينات، أعمال مثل "أم رتيبة" أو "أم عنتر"، بموضوعاتها النسوية والمعادية للاستعمار، من دون صوت عالٍ وبالحد الأدنى من الرمزية.

لا أذكر الآن إن كانت اللوحة مؤرّخة، لكنها، من بُنيتها الهندسية، بدت تنتمي إلى مرحلة "المنازل"، أي الحقبة التي تحولت فيها سري، بعد نكسة حزيران/يونيو، إلى رسم مدن مكدسة ببيوت موشكة على الانهيار. قبل الهزيمة بسنوات، كان إيمان جاذبية سري بالمشروع الناصري قد اهتز بالفعل، ولأسباب شخصية أيضاً. ففي العام 1959 قضت بضع ليالٍ في الحبس، وبقى زوجها فيه بضع سنوات بتهمة الشيوعية.

لكن لو أن لوحة متحف عمّان تنتمي إلى حقبة المنازل، فهي، على الأرجح، تنتمي إلى مرحلة متأخرة منها، مرحلة "المنازل البشر"، نهاية الستينات أو مطلع العقد اللاحق، حين راحت منازل سري تتخذ أشكالاً بشرية، وشرع بعضها في العناق أو الجري بعيداً. المعضلة الوحيدة، أن ألوان اللوحة كانت زاهية، تتخللها فراغات بيضاء مرسومة بحركات خفيفة للفرشاة. بينما كانت ألوان مرحلة المنازل داكنة وبُنيتها شديدة الكثافة.

تقترب الألوان المبهجة للوحة من جماليات المرحلة التونسية، الدرجات المفرحة للحُمرة والزُّرقة التي انغمست فيها سري إثناء إقامتها عامين في تونس العاصمة مطلع الثمانينات. يصعب التيقن حقاً، فربما تنتمي اللوحة إلى مرحلة أحدث، ربما نهاية التسعينات أو مطلع الألفية، مرحلة ليست لدي معرفة كافية بها.



نالت سري اهتماماً استثنائياً من الدارسين، بهدف تحقيب أعمالها وتقسيمها إلى مراحل. السبب البديهي هو نشاطها الفني الطويل منذ منتصف الأربعينات حتى العقد الثاني من الألفية، وقد عاشت سري ما يقرب من القرن. ولدت في العام 1925 بعد عامين من إعلان دستور الاستقلال، وعاشت لتشهد ثورة يناير وعقداً بعدها. أقامت معرضها الأول في 1951، قبل عام واحد من ثورة تموز/يوليو، وشاركت في أكثر من مئة معرض حول العالم على مدى سبعة عقود، قضتها بين مرسمها والإقامات الفنية وقاعات الدرس كأستاذة جامعية في أقسام الفنون الجميلة.

إلا أن السبب الآخر لهذا الاهتمام، هو قدرة جاذبية سري، الفريدة، على إعادة تشكيل أسلوبها مرات ومرات، والقفز من مدرسة إلى أخرى، بخفة وإتقان مبهرين. ففي حين بقي بعض مجايليها متمسكاً بأسلوب واحد فقط، أو قام بتغيير أو اثنين في مشواره المهني، فإن أعمال سري قسمها النقاد إلى خمس مراحل، وأحياناً سبع وأحياناً أكثر.

وفيما اعتبر البعض نكسة يونيو نقطة فاصلة في انتقالها من الواقعية الاجتماعية إلى التجريد، فإن البعض الآخر ينسب إلى زيارتها للولايات المتحدة في العام 1965، التأثير الأكبر، في تحولها من التشخيصية إلى التعبيرية. في تلك المرحلة الأميركية شديدة القصر والكثافة، انتجت لوحات"التمييز العنصري" و"الأميركي الأسود" و"غزو الفضاء" و"في الغابة"، بأسلوب تشخيصي وإن كان ميالاً إلى التجريد، أسلوب مختلف عن كل أعمالها السابقة، وسيختفي فجأة بعدها. لاحقاً، صرحت سري أكثر من مرة، أن تلك الإقامة الفنية في كاليفورنيا "حررتها" من قيود التصويري إلى أفق اللون الأرحب، بين أشياء كثيرة جعلتها تنتبه فجأة إلى الطبيعة. في العام التالي ستدخل إلى مرحلة نوبية "غير رسمية" قصيرة جداً أيضاً، لتركز فيها على المنظر الطبيعي، وسيظهر الحيوان والجبل في لوحاتها ثم يختفيا بسرعة ظهورهما.

بعد نصر أكتوبر، وفي عقد السبعينات، سيظهر البحر والصحراء بشكل متواتر في لوحاتها، تلك مرحلة "الصحراء" وسيناء المستعادة، وبعدها ستبدأ في تجريبها الهندسي، وبشكل خاص على الأشكال الهرمية، على خلفية من الصحراء المجردة. في الثمانينات كانت هناك مرحلة تونسية لم تنل نصيبها المستحق من الانتباه، وإن كان تأثيرها اللوني قد امتد معها طويلاً، وربما هناك مرحلة أميركية ثانية في العقد نفسه، وصولاً إلى عقدها الأخير حين اكتفت سري التسعينية برسم خطوط رأسية، ببساطة وتصميم شبه أسطوري على الاستمرار في العمل.

لا يعني هذا فقط أن سري، التي رحلت عن عالمنا قبل يومين، كانت متعددة الأساليب إلى حد مذهل. فلسري أسلوب واحد يعرفه جميع محبيها، ويتعرفون عليه بسهولة. لوحاتها الأولى في النصف الأول من الخمسينات، بنسائها وملامحهن القوية. صنعت سري العشرينية بتلك الأعمال شهرتها في سنوات معدودة بعد تخرجها، وحجزت بها مكانة مضمونة وراسخة في التاريخ الفني لبلدها. بهذا، كانت قد حققت كل ما يلزم بالفعل، مبكراً، ربما أكثر من اللازم، وقضت العقود الستة اللاحقة في التجريب والقفز من مرحلة إلى أخرى، ومن أسلوب إلى آخر، بلا هدف آخر سوى متعة التعليم والتعلم.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024