الثورة الفاشلة

رشا الأطرش

الجمعة 2020/10/16

الثورة الفاشلة ليست لا شيء. فشلها ليس نهايتها. لا يجعلها – ونتائجها – صفراً. الثورة الفاشلة تصنيف، أحد تعريفات الثورة. مثل الثورة السياسية (البروليتارية أو البرجوازية أو الاشتراكية في القاموس الماركسي)، ثورات الريف أو الانقلابات العسكرية، الثورات الدينية والثورات الكبرى على غرار الفرنسية. الثورة الفاشلة مفهوم وتجربة، كبقية الثورات، تاريخ يكمل تاريخاً سبق، ويُعدّ المسرح لما بعده.

يصعب القول أن الثورة اللبنانية تنتمي اليوم إلى تصنيف الثورة الفاشلة، فأسبابها ما زالت قائمة وأكثر من ذي قبل، وغضب الناس يزداد فوراناً يومياً. لكنها أيضاً مجمّدة، متوقفة عن النمو، رغم مرور عام على ولادتها، وهذا نوع من أنواع الموت. برزخ الثورة، ربما. يُحيي الناشطون ذكرى ثورة 17 تشرين الأول بالمسيرات والمشاعل، بقطع الطرق حيناً، وأحياناً بالبيانات والبالونات، نُصُب فنية وأفلام وموسيقى، و"حركات" أخرى كانت لتبدو لطيفة قبل عام، لكنها الآن تبدو بلهاء، بل مُهينة لمشاعر لبنانيين قُتل أحبّتهم أو عُطبوا أو أُرهبوا، سواء بأثر من قمع السلطة أو في انفجار المرفأ الذي لا مسؤول عنه سوى المسؤولين في نادي الحكّام إياه.. والكثير من "أفكار" المناسبة يبدو في 2020 نوستالجيا حزينة، ومستفزاً لشعب يغرق نصفه أو أكثر في الإفقار والمرض والبطالة، ويعاني شحّ السلع والخدمات الأساسية.

كانت لثورة 17 تشرين إنجازات ليست بالقليلة، وأثرها لن يخفت بسهولة. كسرت الحواجز النفسية بين اللبنانيين، طوائفهم ومناطقهم وخطوط تماس من زمن الحرب الأهلية. بها ومعها ومن أجلها، كان صعود النساء والشباب في الريادة، كفاعلين وفاعلات، كوجوه وأجساد اكتسبت حناجر أقوى، وأبرزت قضاياها المطلبية بوضوح، وفرضت حضوراً ما عاد ممكناً تجاهله أو تهميشه. سُمعت أصوات مُعارِضة كانت مكبوتة في بيئاتها الطائفية والمناطقية، ولو لبرهة، وهذا تقريباً غير مسبوق. تسببت الثورة في استقالة حكومتين، وفرضت جزءاً كبيراً من أجندتها في الحيز السياسي العام، وشدّت الإعلام من شَعره، حتى إعلام الأحزاب. الثورة أقلقت الطاقم الحاكم، وأصحاب القبضات الأمنية والمليشيوية والبلطجية، ولو قليلاً ولبعض الوقت. خبّأت مسؤولين في بيوتهم، وحتى في بيوتهم ظلوا متوجسين، ودفعت المصارف إلى التمترس خلف جدران من حديد. والأهم، في الثقافة والسياسة معاً، أنها حوّلت الرطانة إلى شِعار، والشعار إلى مطلب رُفع مع أمل حقيقي في إمكانية تحقيقه، أمل أصيل ومُصدَّق – ولو بشيء من التوهم. فهتافات "كلن يعني كلن"، والتجرؤ على هالات الطوائف وقدسيات الزعماء، رفع الصوت بشأن الفساد الذي لا يُستثنى منه أحد وإن تفاوتت درجات التورط، والبرامج السياسية والاقتصادية البديلة التي تعب في تدبيجها متخصصون ومتمرسون في صفوف الثوار..

هذه كلها كانت، قبل 17 تشرين 2019، كلام صالونات وحانات، أحلام رومانسيين من النوع الذي تتمحور حوله سهرة وسَكرَة تنتهيان بحَسرة المستحيل في تركيبة لبنانية أشبه بأحجية لا حلّ لها. الحريات، سقفها الذي ارتفع بشكل أشبه بالسّحر، ومفرداتها السياسية والحقوقية التي ما عادت "أخلاقيات" كُتُبيّة، بل ممارسات على الأرض وحديث متداوَل، خطاب حيوي بعدما كان ترفاً أو مجرد "مبادئ" على طريقة "حقوق الإنسان" في هذه البقعة من الأرض. وولدت مجموعات بديلة عن النقابات والأحزاب، واستقرّ إطار معروف وشبه منظّم قوامه محامون وحقوقيون وناشطون مكرّسون للدفاع عن الدافعين بتلك الحريات قُدُماً رغم الأثمان الباهظة.

والآن.. بعد عام. السّلمية بلغت ذروتها، والطريق الوحيدة من هنا انحدار. أفل زمن الاحتفال بإمكانية الثورة، وبأنفسنا متمردين في الشوارع والجامعات والمطاعم التي طردنا منها مشاهير السياسة والبنوك. فيما بنك الأهداف لا يزال مفلساً. أما الحرب وانفراط البلد إلى كانتونات ربما تكون أسوأ من مرحلة 1975-1990، فهذا ليس خياراً، بل الرعب والفناء الذي ما من عاقل يسعى إليه. هكذا انتصر الاستعصاء اللبناني. شدّ أزرَه، في مواجهة الناس، الفقرُ والإرهاقُ وكورونا والهجرة المتزايدة كخَلاصات فردية صارت الوحيدة شبه الممكنة، إضافة إلى شرذمة قوى الثورة نفسها، وعلامات الاستفهام المحيطة ببعض رموزها، وضياع بوصلتها في حالات كثيرة.

ولعل أبرز سِمات الذكرى الأولى للثورة اللبنانية أن الرطانة التي التمعت للحظة كـ"مُمكِن"، عادت رطانة. لا لأنها ما عادت تعبّر عن غالبية اللبنانيين، إنما لأنها عاودت تمظهرها كمستحيل مُعقّد بعيدٍ من الإدراك والتصديق، حتى تخييله بات سخيفاً بفِعل لامعقوليته.

ثمة مقولة شهيرة لفالتر بنيامين: "خلف كل صعود للفاشية تقبع ثورة فاشلة".
وإن كان التحالف المافيوي بين زعماء الطوائف والأحزاب وكبار رجال الأعمال والمصرفيين، لا تنطبق عليه الوصفة الأكاديمة لمعنى الفاشية، لكنه يتشارك مع الأخيرة إجرامها، عسفها وتماسكها، تحكّمها في كل مفاصل الحياة (والموت)، بطشها المضبوط الملعوب، سِعَة حِيَلها، ورسوخها "كثقافة هيمنة" لجماعة متصارعة في ما بينها ومتراصة أمام مواطنيها. وأكثر من ذلك، باتت مطالب ثورة 17 تشرين مكوّناً أساسياً، لفظياً طبعاً، في أجندة السلطة التي تسعى اليوم، وبقدر من النجاح، إلى إعادة إنتاج نفسها، وبالأسماء والوظائف ذاتها، كمعادلة "إنقاذية" أقرب إلى المهزلة لكنها الوحيدة المتاحة. ثورة فاشلة في لدن دولة فاشلة تحت عباءة دويلة مارقة اسمها حزب الله.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024