الشعانين في ثلاث تحف إسلامية

محمود الزيباوي

الأحد 2021/03/28
يحتفل المسيحيون الذين يتبعون التقويم الغربي اليوم بعيد الشعانين، وهو العيد الذي تقيمه الكنيسة يوم الأحد الذي يسبق الفصح، ويُعرف كذلك بـ"دخول السيد إلى أورشليم". بحسب الرواية التي تتردّد في الأناجيل الأربعة، صعد يسوع مع تلامذته إلى القدس، ودخلها على جحش "لم يجلس عليه أحد من الناس قط" (لوقا 19: 30)، وعند منحدر جبل الزيتون، تعالى الهتاف: "مبارك الملك الآتي باسم الرب، سلام في السماء ومجد في الأعالي" (لوقا 19: 38).

في القرن الرابع عشر، استعرض أمير حماه أبو الفداء أعياد النصارى في كتابه "المختصر في تاريخ البشر"، وقال في تعريفه: "ومن أعيادهم الشعانين الكبير، وهو يوم الأحد الثاني والأربعين من الصوم، وتفسير الشعانين التسبيح، لأن المسيح دخل يوم الشعنينة المذكورة إلى القدس، راكباً أتان يتبعها جحش، فاستقبله الرجال والنساء والصبيان وبأيديهم ورق الزيتون وقرأوا بين يديه التوراة إلى أن دخل بيت المقدس واختفى عن اليهود يوم الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وغسل في يوم الأربعاء أيدي صحابه الحواريين وأرجلهم ومسحها في ثيابه، وكذلك يفعله القسيسون بأصحابهم في هذا اليوم". 

وفي القرن الخامس عشر، تكلم المقريزي في "المواعظ والاعتبار" عن الاحتفالات بـ"عيد الزيتونة" في مصر قبل أن يصدر الحاكم بأمر الله أمرا بمنعها، و"عيد الزيتونة"، هو التسمية الشعبية المصرية لعيد الشعانين، ومعناه عند المسيحيين هو بحسب المؤلف "التسبيح، ويكون في سابع أحد من صومهم. وسنتهم في عيد الشعانين أن يخرجوا سعف النخل من الكنيسة، ويرون أنه يوم ركوب المسيح العنود، وهو الحمار في القدس، ودخوله إلى صهيون، وهو راكب والناس بين يديه يسبّحون، وهو يأمر بالمعروف، ويحث على عمل الخير، وينهى عن المنكر، ويباعد عنه".


الصورة وتقاسيمها

في الفن المسيحي الأوّل، ظهر المسيح على الجحش وسط مستقبليه بشكل مختزل في منتصف القرن الرابع، واكتملت صورته في القرن السادس. تكرّر هذا المشهد في القرون التالية في تأليف ثابت: يحتل المسيح وسط الصورة، ويظهر بثوبه التقليدي المؤلف من ثوب أحمر ومعطف أزرق، راسما بيده اليمنى إشارة المباركة، حاملا بيده اليسرى رقاً مغلقاً. يحتلّ جمع التلامذة الجهة اليمنى، ويحتلّ جمع الشعب الطرف المقابل، وهو جمع الذين "أخذوا سعوف النخل وخرجوا للقائه، وكانوا يصرخون: "أوصنا، مبارك الآتي باسم الرب" (يوحنا 12: 13). ويتقدم هذا الجمع أطفال يفرشون الثياب أمام السيّد. يقف جمع التلامذة أمام كهف صخري، ويقف جمع الشعب أمام بناء يرمز إلى أورشليم، وتحلّ في الوسط شجرة طويلة يعلوها أطفال يشاركون في استقبال المسيح. في الشرق المسيحي، يأخذ هذا التأليف البيزنطي طابعاً عباسياً في كثير من الأحيان كما تشهد بعض المنمنمات السريانية والقبطية والأرمنية، أشهرها منمنمة سريانية تعود إلى مخطوط محفوظ في مكتبة الفاتيكان تعود إلى النصف الأول من القرن الثالث عشر، ومصدرها نواحي الموصل.

يحضر هذا المشهد على ثلاث أوان إسلامية نفيسة صنعت من النحاس والفضة، وذلك ضمن زينة زخرفية تجمع بين الصور المدنية الإسلامية والصور الدينية المسيحية. تعود هذه الأواني إلى القرن الثالث عشر، وهي ليست فريدة من نوعها، إذ أحصى أهل الاختصاص 13 قطعة من هذا الطراز موزعة على متاحف العالم، وكلها تعود إلى الحقبة نفسها. تحمل هذه التحف العديد من الكتابات، غير أن هذه الكتابات لا تشير إلى أسماء أصحابها، كما أنها لا تذكر أسماء صانعيها إلا في شكل استثنائي. تحمل احدى القطع اسم الملك الصالح نجم الدين أيوب، وهي حوض محفوظ في "غاليري فرير" في واشنطن. وتحمل قطعة أخرى توقيع أحمد الذكي الموصلي الذي أنجزها بين عامي 1242 و 1243، وهي إبريق محفوظ في مجموعة كير في دالاس. كذلك تحمل قطعة ثالثة توقيع داوود بن سلامة الذي أنجزها بين عامي 1248 و 1249، وهي شمعدان محفوظ في متحف الفنون التزيينية في باريس. 


الحلل الأيوبية

يُعرف الحوض المحفوظ في "غاليري فرير" بحوض نجم الدين أيوب، وهو اسم سابع سلاطين بني أيوب في مصر، وهو مذكور بشكل كامل في الكتابة المنقوشة، ونصّها: "عز لمولانا السلطان الملك الصالح سيد الأجلّ العالم العامل المجاهد المرابط المؤيد المنصور نجم الدين أيوب أبو محمد ابن ابي بكر بن أيوب. عز لمولانا السلطان الملك الصالح سيد الأجلّ العالم العامل المجاهد المرابط المظفر المنصور نجم الدنيا والدين ملك الإسلام والمسلمين ابي الفتح أيوب ابن الملك الكامل ناصر الدنيا والدين محمد ابن ابي بكر بن أيوب خليل أمير المؤمنين عز نصره". 

تحوي زينة هذا الحوض الأيوبي النفيس خمس صور مسيحية لكل واحدة منها إطارها الزخرفي يتكرّر بشكل تعادلي ثابت، تمثّل هذه الصور تباعاً بشارة جبريل للعذراء، العذراء والطفل يسوع، قيامة أليعازر، دخول المسيح إلى بيت المقدس، والعشاء الأخير. يحضر مشهد دخول المسيح إلى بيت المقدس بشكل مختزل: يتقدّم يسوع على جحش باسطا رجليه إلى الأمام، كما في المنمنمات العباسية التي تصور ملكاً جالساً القرفصاء على عرشه، وتحدّ قامته العليا نبتتان متناسقتان تبعا للنسق العباسي نفسه. يغيب مشهد الجموع، ولا يبقى منه سوى رجل يقف من أمام الدابة وآخر يقف من ورائها.

يظهر هذا المشهد بصورته التقليدية على قربة كبيرة محفوظة كذلك في "غاليري فرير"، وتُعتبر هذه القربة أشهر التحف التي تجمع بين الصور الإسلامية المدنية والصور المسيحية الدينية. ترافق الزينة الزخرفية كتابة منقوشة طويلة تمتدح صاحب القربة، غير أنها لا تذكر اسمه للأسف. يقول مطلع هذا النص: "العز الدائم والعمر السالم والمجد الصاعد والدولة الباقية والسلامة الغالية والبقاء لصاحبه". يتواصل هذا المديح مع تكرار في التعابير، ويليه: "النعمة الخالدة والكرامة الكاملة لصاحبه. العميد الضابط الأمجد الصالح الرفيع الوديع الهادي المحارب المرابط". تحتل صورة العذراء مع الطفل يسوع على عرش وسط واجهة هذه القربة، وتحيط بها ثلاث صور عريضة تمثّل تباعا ميلاد يسوع، تقدمة المسيح الطفل إلى الهيكل، ودخول المسيح إلى بيت المقدس. 

كما في التأليف المتوارث، يظهر المسيح في الوسط على جحشه، وتحيط برأسه هالة تحوي صليبا، كما في الفن المسيحي التقليدي. مرة أخرى، يتقدّم يسوع باسطا رجليه إلى الأمام، على الطريقة الإسلامية. في القسم الأسفل، نرى طفلين يفرشان الثياب أمام السيّد بشكل متواز، ومن خلف كل منهما ترتفع شجرة مورقة يعلوها طفل يراقب السيد. تشكّل هاتان الشجرتان المتناسقتان إطاراً للصورة المركزية، وفقا للتقليد المتبع في فن التصوير العباسي. خلف الدابة، يحضر رجلان يشاركان في استقبال يسوع. ومن أمامها، نرى ثلاثة رجال يمثلون الجمع الذي خرج من المدينة لملاقاة يسوع. ومن فوقهم، يحلّ ملاكان يحلقان بأجنحتهما في اتجاه يسوع.


تتويج الملك

يعود هذا المشهد بشكل مبتكر على علبة صغيرة الحجم من محفوظات متحف متروبوليتان في نيويورك. تعلو سطح غطاء هذه العلبة صورة تمثل العذراء والطفل يسوع في قالب إسلامي صرف. أما زينة هذه الآنية فتتمثل بسلسلة من القامات، يتوسّطها مشهد يسوع على جحشه دخل إطار لولبي مزخرف. يتوزع جمهور المستقبلين حول السيد داخل هذا الإطار، وهم هنا أربعة، اثنان في الأعلى يتوجان الملك، واثنان من خلف ظهر الدابة يهللان له، كما يحضر في الأسفل طفلان يفرشان الثياب، في استعادة لما جاء في الإنجيل: "كثيرون فرشوا ثيابهم في الطريق. وآخرون قطعوا أغصانا من الشجر وفرشوها في الطريق" (مرقس 11: 8). 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024