تحدث عن الطبقة الوسطى فنُقل "تأديبياً" إلى خارج الجامعة

علي سفر

السبت 2020/05/09
كان من العادي في اليوميات السورية، أن تقوم عمادات الكليات في الجامعات بتقديم بعض المدرسين فيها إلى مجالس تأديبية لأسباب شتى، لكن الخيط الذي يجمعها هو القضايا التقليدية كالتحرش وتقاضي الرشى وغير ذلك. أما خروج المدرسين عن السياق والنمط اللذين يرغب فيهما النظام، أي تموضع هؤلاء المدرسين في ركن اللافعالية السياسية والأيديولوجية المؤيدة له، فكان أمراً يستدعي تدخل الأجهزة الأمنية، وجنّدت من أجله عملاء لها ومتطوعين في كل المؤسسات التعليمية وغير التعليمية، في طول البلاد وعرضها.

لهذا، تبدو قصة الدكتور زياد زنبوعة، مختلفة في العموم، لكنها، وبسبب تفاصيلها الخاصة، تبدو أشد غرابة. فهو لم يخرج عن واجبه العلمي، كعضو في الهيئة التدريسية في كلية الاقتصاد في دمشق. ولم يقم بنشاط، ضمن مؤسسات المعارضة السورية في الداخل أو الخارج. كل ما فعله هو إلقاء محاضرة بتاريخ 17/1/2017 حملت عنوان "الطبقة الوسطى من وجهة نظر اقتصادية، تداعيات الأزمة"! في أمسية نُظمت بمشاركة ثلاث جهات رسمية هي: كلية الاقتصاد في جامعة دمشق، وغرفة تجارة دمشق، وجمعية العلوم الاقتصادية، ويبدو أن مضمونها لم يرُق لبعض من حضرها، ما أدى إلى إحالته إلى مجلس التأديب لأعضاء الهيئة التدريسية في جامعة دمشق، الذي فرض بحقه عقوبة النقل التأديبي خارج الجامعة بتهمة "الاستهزاء بالخطوات التي تقوم بها الدولة منذ بداية الأزمة في مجال الإصلاح السياسي والاقتصادي"!

وعندما طُعن بقرار المجلس التأديبي أمام المحكمة الإدارية العليا، قررت هذه الأخيرة إلغاء القرار، وإحالة الجامعي المتهم إلى القضاء الجزائي المختص لملاحقته جزائياً بالأفعال المسندة إليه، واستمرار إيقافه عن العمل إلى حين البت بوضعه جزائياً وتأديبياً بأحكام مكتسبة الدرجة القطعية.

غير أن شمل الجرم المسند للمُحال (د.زياد زنبوعة)، بمرسوم العفو رقم 20 لعام 2019 بموجب قرار النيابة بدمشق المؤرخ 12/11/2019، أدى إلى تحريك دعوى الحق العام بحقه، وإعادة الأوراق إلى مجلس التأديب، الذي عاد إلى القضية بشهية المنتقم، فقرر أن ما أُسند للمُحال من شأنه المساس بهيبة الدولة! وإضعاف الشعور الوطني للمواطنين! وأنه يبعث فيهم روح الانهزام! ويشكل إخلالاً بواجباته الوظيفية، مما يستوجب مساءلته مسلكياً عن تلك المخالفة، وبناء على ما ذكر من أسباب فقد قرر المجلس العقوبة السابقة "النقل التأديبي خارج الجامعة".

الدكتور زنبوعة، وبعدما تلقى القرار الذي لا يخلو سطر فيه من خطأ إملائي أو خطأين! وصدر باسم الشعب في سوريا!! كتب معلقاً في صفحته في "فايسبوك": "أربع سنوات وما فتئت تتكالبُ عليّ الجهات القضائية والجامعية وموجهيهم: (...) لماذا يُعاقب أستاذ جامعي في دولة المؤسسات والقانون؟ (...) الأشرار أجابوا لماذا: والأشرار يرفَّعون ويقولون: إني ارتكبت الفواحش الكبرى، وأكبر الكبائر وهي: تكلمت؟! هل معقوووول؟ أستاذ جامعي يتكلم(...)؟ أول مرة نسمع ذلك؟ قد يفكك أركان وتماسك الأمة؟ يا له من مجرم خطير، أوهن نفسية الأمة وسبب لها التكدير".

لكن، بماذا تكلم زياد زنبوعة في محاضرته؟ 

في النسخة التي تم تداولها عبر صفحات التواصل الاجتماعي، واطّلعت عليها "المدن"، خرج المحاضر بتوصيات يُلاحظ أنها، في جزء كبير منها، لا تختلف عما يطالب به إعلام النظام من ضرورة رفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن الشعب السوري، وأيضاً التركيز على مسار المصالحات والتسويات، وملاحقة تجار الأزمة والمحتكرين وتجار الحروب والفاسدين، ودعوة المهجرين السوريين إلى العودة إلى وطنهم، وأيضاً الإسراع بشكل إسعافي في دراسة الوضع المعيشي للمواطن بشكل عام، والموظف بشكل اساسي، بسبب وصوله إلى ما دون حالة الفقر المدقع!

غير أن المشكلة الأساسية في ما قدمه زنبوعة، وبحسب بعض من اطلعوا على كلماته، تكمن في رؤيته للأسباب التي أدت إلى الواقع الحالي في سوريا. ففي الجزء المعنون "تآكل وتحول الطبقة الوسطى"، يرى المدرس الجامعي الموقوف عن العمل، أن التوجه الاقتصادي التحرري الذي كان سائداً في سوريا "بلغ عنق الزجاجة عندما لُجم بالتوجه السياسي للدولة فخنقت السياسة الاقتصاد، وهنا كان مربط الأزمة التي تفجرت في البلاد. حيث أصبحت في سوريا قوى منتجة متنامية، تقابلها علاقات إنتاج وبُنية سياسية متخلفة تتمثل في غياب منظمات المجتمع المدني وغياب الأحزاب الحقيقية".

ويسرد المحاضر في السياق أنه استهجن في العام 2005، قرار القيادة السورية المضي في الإصلاحات الاقتصادية دون السياسية، ويذكرُ أنه وبعد انفجار "الأزمة" في 2011، نُفّذت بعض الإصلاحات السياسية، لكن بعد فوات الأوان! فقد "بدأ الانهيار الاقتصادي وبدأ عصر جديد من تشكل الطبقات الاقتصادية في البلاد، وبدأ معه انهيار الطبقة الوسطى، وكان انهياراً خطيراً. أو بكلمة أدق تفاقم انهيار الطبقة الوسطى لأن انهيارها المعنوي سبق انهيارها الكمي بسنين طويلة إذا لم نقل عقوداً"!

علمية كلام زياد زنبوعة، وتجاوز الوقائع على الأرض لما يقول، بعد مرور ما يقارب عقد كامل على الثورة السورية، لم يغفرا له ما طرحه، طالما أن الموضوع هو إبراز أخطاء قيادة الأسد الابن للبلاد، والتي أودت بها إلى مصيرها الراهن. ففي العقل المؤسساتي الذي أعادت تشكيله المؤسسات الأمنية، وبما يتناسب مع ضمان استمرار السيطرة على كل شيء، لا يجوز لأي كان أن يقيمّ خطوات النظام!

قضية زنبوعة قوبلت في أوساط موالي النظام، قبل معارضيه، باستياء عام، ترافق مع المناخ الذي أحدثه بث رامي مخلوف، ابن خال الرئيس، مقطعي فيديو، عرض فيهما مشكلته مع مؤسسات الدولة ظاهرياً، بينما كان الجميع يدرك أنه يتوجه بكلامه للرئيس كي يخفف عنه ضغط زوجته أسماء، التي تتنافس مع آل مخلوف حالياً في مجال السيطرة على ما بقي من مقدرات البلاد.

وضمن هذا الواقع الصاخب، تذكر كثيرون في صفحات التواصل الاجتماعي، قيام رجل الأعمال المعارض، رياض سيف، بطرح قضية شركتي الخلوي أمام مجلس الشعب، في بداية عهد الأسد الشاب. ما أدى بالمحصلة إلى دفعه أثماناً جمة، بدأت بخسارته لولده في حادثة مريبة على شاطئ البحر أدت إلى اختفاء أثره، مروراً بسجنه، وصولاً إلى النفي.

وكذلك قضية الدكتور عارف دليلة الذي اعتقل في 9/9/2001، بعد أسبوع على إلقائه محاضرة في منتدى الأتاسي في دمشق، تحت عنوان "الاقتصاد السوري: مشكلات وحلول". وحوكم أمام محكمة أمن الدولة بتهم: إثارة النعرات الطائفية، والدعوة إلى عصيان مسلح، ومنع السلطات من ممارسة مهامها، ونشر معلومات كاذبة، والسعي إلى تغيير الدستور بطرق غير قانونية. فتمت إدانته، وحكمت عليه المحكمة بالأشغال الشاقة لمدة 10 سنوات.

الدكتور نور الدين منى، وزير الزراعة السابق، تساءل في مجموعة "دكاترة الجامعات السورية" عن القضية فقال: "هل يحق للجامعة العريقة سابقاً... وأكرر سابقاً؛ والتي هي حالياً خارجة عن معايير التصنيف الاعتمادي العالمي الأكاديمي العلمي، أن تصدر هكذا قرارات؟ بدلاً من الاهتمام بإعادة تطوير وتحديث الجامعة؛ لتحقيق الحد الأدنى من الاعتمادية العالمية في مجال التعليم والبحوث ؟؟!! (...) أرى شخصياً، أن هذا القرار بحق الدكتور زنبوعة كأستاذ جامعي، قرار تعسفي بامتياز، ولا يليق بالأعراف الجامعية؛ لا السورية ولا الدولية. ويعتبر وصمة عار على جبين جامعة دمشق، والتي يفترض أن يكون لها حالياً دور رائد في لملمة جراح الوطن؛ معنوياً؛ وعلمياً؛ ومادياً".

أما المحامي عارف الشعال فقد استنكر في صفحته الشخصية القرار، وذكّر بحادثة من تاريخ جامعة دمشق. ففي العام 1973، نُقل الدكتور في كلية الحقوق، محمد الفاضل، إلى وزارة الشؤون البلدية والقروية، بشكل تعسفي، إثر خلاف بينه وبين عميد الكلية آنذاك، الدكتور كمال غالي، فرفع الدكتور الفاضل دعوى أمام مجلس الدولة طالباً إلغاء القرار، وتمَّ ذلك فعلاً. ويذكر الدكتور عبد الإله الخاني، رئيس مجلس الدولة، في "موسوعة القانون الإداري"، حيثيات هذا الحكم المتميز الذي جاء فيه: "الأستاذ الجامعي مثال للإنسان الذي يتمتع بحقوق الإنسان المعنوية التي تعادل الكرامة الإنسانية، وهو حق مزدوج يضمن حق المُعلم والمتعلم على السواء، فحق الأستاذ في أن يقول كلمة العلم في الجامعة وهي منبر علمي، مساوٍ تماماً لحق طالب الجامعة في أن يستمر في استقاء هذا العلم لا تقطعه عليه قوة".

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024