بتيبون.. لإعادة النظر في التاريخ الأميركي الحديث

رائد الرافعي

الجمعة 2017/04/07
يروي برنامج أميركي للأطفال من أواخر الستينيات، قصة ولد غريب الأطوار يعيش في قرية. ولا يلقى الولد استحسان سكان القرية ويسكن بمعزل عنهم. وذات يوم، تقع كارثة طبيعية، فيبدأ الولد بالصراخ: "ڤاڤوم"، "ڤاڤووووم"… ليدلّ الناس إلى طريق آمن يهربون عبره. وحينها يصبح الولد "ڤاڤوم" ‪(‬Vavoom‪)‬ بفضل صوته الجهوري بطلاً. هذه الشخصية الكرتونية، استوحى منها الفنان الأميركي ريموند بتيبون Raymond Pettibon عدداً من رسومه، وهو أحد أكثر الفنانين الأميركيين فرادةً، تمزج أعماله بين الرسم والكتابة وتتأرجح بين اللوحة الفنية والرسم الكاريكاتوري والنقد السياسي والإجتماعي والشعر. 

يمكن القول انّ بتيبون، الذي تُعرض أكبر مجموعة من أعماله حالياً في نيويورك في "المتحف الجديد"، هو كما "ڤاڤوم"، صوت أميركا الباطني الذي يُفجّر اللاوعي الجماعي الأميركي منذ النصف الثاني للقرن العشرين ويُخرجه إلى السطح بفظاظته وتعقيداته من دون تنقيح أو تلطيف. مشروع بتيبون الفني يلامس حدّ الهوس، فهو يضع بصمته على كل إعلان أو خطاب سياسي أو نص ديني أو قصة شعبية، ويحوّلها من رسائل موجّهة إلى العامة بهدف الإغواء أو الإقناع أو فرض حالة من الإنصياع للنظام الرأسمالي الإستهلاكي، إلى مادة فريدة وخاصة به. وكأنّه يقلب رأساً على عقب، كل تلك المواد التي تخلق الميثولوجية الحديثة الأميركية، والتي تنسج كياناً جماعياً يختصر الفرد الأميركي، ليؤكّد ربما على قدرة الفرد على مواجهة محدلة الثقافة الواحدة والخطاب المسطّح.

فهو مثلاً يقول بالرسم والكلمة، ما كانت الإدارة الأميركية بعد اجتياح العراق، تحاول إخفاءه، من صور لجنود أميركيين في التوابيت، أو لمساجين عراقيين تحت التعذيب في سجن أبو غريب، أو أنّه يصوّر شخصية البطل الأميركي التي يجسّدها سوبرمان بمنظار جنسي فظّ، أو يضيف عبارات موحية جنسياً إلى أيقونات دينية. 
العبور في معرض أعمال بتيبون، هو بمثابة إعادة النظر في التاريخ الحديث للولايات المتحدة وتفكيك رموز مئات الإعلانات والخطابات والرسائل الأميركية، التي صنعت ذلك التاريخ في عقول الناس ونفوسهم. عدد الأعمال المعروضة لبتيبون يتجاوز الـ20 ألف قطعة، بين لوحة عريضة وقصاصة صغيرة، وهذا ما قد يصيب الزائر بالصداع. ومنذ عقود، يعمل بتيبون على جمع كل ما يراه أو يطّلع عليه من مقالات أو إعلانات أو رسائل في المجلات والصحف والمناشير على اختلافها، أو حتّى مقتطفات من أفلام البورنو، وهو يبقي تلك القصاصات ويحفظها كومضات من الصوت الجماعي الأميركي ليعيد إنتاجها على طريقته، بحياكتها بحرية مطلقة، ليقول ما هو مخفي أو مطموس، عن الثقافة والسياسة والمجتمع في بلده. ويتمحور العديد من أعماله حول تحوير صور أو مشاهد أو رسوم معروفة، ومطبوعة في أذهان الناس، للتعبير عن صوت آخر، حقيقي، ومعادٍ للقومية الطنّانة وللمُثل المحافظة والبرجوازية.  
ولد بتيبون العام 1967 في أريزونا، وترعرع في كاليفورنيا، بدأ دراسة وتدريس الإقتصاد، لكن ولعه بالفنّ والثقافة الشعبية، دفعاه إلى تصميم أغلفة ألبومات فرق الروك في السبعينيات والثمانينيات، وأولها كان لفرقة "العلم الأسود" التي أسسها أخوه. ومع الوقت، بدأ بنشر الكتيبات والرسوم التي يعلّق عبرها على كل ما حوله. وتحتلّ رياضة البيسبول مكانة خاصة في أعماله. ففي أحد الرسوم، نرى أول لاعب بيسبول أسود، مع عبارات تتحدث عن اجتياز الحواجز الحقيقية للّعبة، وبذلك تحمل مجازاً نضالات الأفرو-أميركيين للحصول على حقوقهم المدنية، وكل ذلك بأسلوب لا يخلو من الفكاهة.  

وفي رسم سياسي ساخر، نرى جورج بوش وهو يسأل أوباما إن كان قد جرّب الهيرويين. ويتابع أنّه يسمع عن "الأفغاني" بأنّه جيد جداً لكنه يخلق حالة إدمان، وهنا يعلّق بتيبون على استمرار الحرب في أفغانستان في عهد أوباما. ويذهب أبعد من ذلك في رسم آخر لبن لادن يقارن بينه وبين أحد الزعماء الجمهوريين. أعمال بتيبون لا تسعى إلى الإثارة لمجرد الإثارة، بل يبدو النقد عنده حالة مستمرة تخترق مظاهر الحياة. إحدى الشخصيات التاريخية التي رسمها بتيبون بكثافة، هي شارل مانسون، وهو "غورو" أو زعيم روحي، هزّ الكيان الأميركي في الستينيات لتجنيده الشابات والشبان للقيام بعمليات إجرامية.

في مجموعة من الرسوم، تظهر ابنة أحد الرأسماليين الأثرياء التي اختطفها مانسون وجنّدها في مجموعته للسرقة، وتبدو تلك السلسلة كردّ فعل على الرأسمالية التي أنتجت شخصية مثل شخصية مانسون الإجرامية. الملفت هو التشابه بين الرسوم التي تجسّد مانسون وتلك التي تصوّر المسيح، وهو أمرٌ غير مستغرب إذ يظهر جليّاً في أعمال مانسون نقده اللّاذع للدّين.         
‫(*)‬ لمعرفة المزيد حول المعرض، يمكن زيارة الموقع التالي هنا
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024