مذكرات هاني شنودة... كثير من الأسئلة الناقصة

أحمد شوقي علي

الأحد 2020/09/06
رأيتُ هاني شنودة، في العام 2008، وكأنني أعرفه قبل تلك الصورة، المعلقة على لوح الإعلانات بساقية عبدالمنعم الصاوي في القاهرة، في هيئة ملصق دعائي، يظهر في خلفيتها واقفًا أمامه الأورغ، وفي المقدمة منها شاب أسمر، يشبه محمد منير، يستعد للغناء ضمن ليلة في حب "محمد منير" من ألحان هاني شنودة. هل لحن شنودة لمنير؟ 
 كان تلفزيون طفولتي يذيع "ماشية السنيورة" كثيرًا، لكنني لم أحبها بسبب عرضها المتكرر، وإنما لأن مؤدييها كانوا كلهم من الرسوم المتحركة، وتاليًا، تعلقت بفيلم شمس الزناتي، بسبب موسيقاه، التي كلما سمعتها، أثارت في داخلي المشاعر ذاتها التي اختبرتها عند رؤية الفيلم أول مرة؛ الموسيقى كما يقول الشاعر المصري عبدالمنعم رمضان، هي حنين إلى ذلك المستحيل: "العودة إلى الماضي". كأن تلك الملصقات الدعائية لحفلات هاني شنودة، تمد بيني وبين سنين عمري الغابرة نفقًا، أقطعه سائرًا من الخلف للأمام، كلما اكتشفت له لحناً جديدًا لم أسمعه من قبل، أو لحناً لم أكن أعرف أنه مبتكره... لكن النفق الذي صار يستطيل يومًا بعد الآخر، كان محكومًا دائمًا بهاتين النقطتين، طفولتي والملصقات، وكأن الأخيرة تسده، أو تمنعني من الخروج إلى فضاء جديد، مكتفيًا بالوقوف إلى جوار الفنان بينما يستعيد أعماله القديمة، وعلى الرغم من أن وصف المذكرات، دائمًا ما يحمل في معناه، اكتمال الرحلة والعكوف على تأملها، إلا أن صدور "مذكرات هاني شنودة"*، مؤخرًا، بدا بمثابة باب أنفذ منه إلى ذلك الفضاء الذي أبتغيه.

يحفز مصطفى حمدي، بداية من مقدمة كتابه، القارئ للدخول إلى تجربة شنودة بصورة أكثر عمقًا، من تلك التي استعيدت من خلالها موسيقاه، بعد أن وظفته إحدى شركات المحمول في إعلان دعائي منذ نحو عامين، وعلى ذلك الأساس يستعرض بعضاً من محطات سيرته الذاتية منذ ولادته في طنطا وصولا إلى اللحظة الراهنة، وفي حين يوحي الكتاب بأنه محاولة لإعادة التعريف بواحد من أهم الموسيقيين المصريين، فإن مادته قد لا تحقق المأمول من ذلك القصد.

تعدُ مفردة "المذكرات"، باستعراض أكثر شمولًا للتجربة الحياتية لشخص ما، لكن "مذكرات هاني شنودة"، تبدو من خلال الكتاب وكأنها استعراض لبعض الذكريات التي يظنها المؤلف أو شنودة نفسه، مفصلية في تجربته العملية، دون أن تكرس لصورة أعمق عن هذه التجربة، أو تجيب على كثير من الأسئلة التي تفرضها الفجوات ما بين تلك الذكريات والأفكار التي تثيرُ، كما لو أنها حوار صحافي طويل، جيد الإعداد والصياغة، ولكن يشوبه عيب ما تفرضه الصحافة من مساحة وقواعد قد تمنعان المحاور من تأمل مستفيض لضيفه، وما يدلي به من إجابات، والتعليق من ثم عليها.

يشير حمدي في مقدمة الكتاب، وبين فصوله، إلى رفض هاني شنودة أن يتحول الحديث بينهما إلى حوار صحافي، يتحكم الكاتب في دفته. لكن ذلك لا يمنع في الوقت نفسه، من التوقف بالتحليل أمام ما تحصل عليه من معلومات ملهمة، ولا يمنعه كذلك من التحقق مما قيل وإضافة ما يدعمه، أو ينفيه، أو يوضحه، لقارئ ربما قد يتعرف للمرة الأولى على هاني شنودة وعالمه الحافل بأسماء فنانين شخصيات يحتاج بعضها إلى تعريف، أيضًا عندما يتعلق الأمر بإعداد سجل (مذكرات) عن حياة شنودة، فإن تقديم ملحق يضم تفصيلاً بمنجزه الفني، يبدو ضرورة، وهو ما خلا منه الكتاب، في حين يمتلك هاني شنودة ما يزيد على 1500 لحن أنجزها ما بين أغنيات للأطفال والكبار، بالإضافة إلى إعداد الموسيقى التصويرية لعدد ضخم من الأعمال السينمائية والتلفزيونية والمسرحية، كما سبق وأن صرح في أحد حواراته المتلفزة.


يشير هاني شنودة إلى استيائه المستمر من وصفه بالخواجة (المتفرنج)، حد أن عقله الباطن كان يقوده "طوال الوقت لأنفي تهمة أنني خواجة"، لكن إلحاحًا أخر، شغل ذهن مصطفى حمدي، وهو الجفاء الذي واجهته تجربة هاني شنودة، وعدم إنصافها بما تستحقه، مع انها عليه كجسر نقل الموسيقى العربية من عالمها المحدود بالمقامات الشرقية الرصينة إلى أفاق عالمية، تمكنت خلاله من هضم غيرها من الثقافات الموسيقية المختلفة، وتطويعها لخدمة وتطوير إيقاعها الأصلي. الأمر الذي بدت معه رغبة السرد في الكتاب وكأنها تريد إثبات تلك الأستاذية المستحقة لشنودة، عبر استعراض تجاربه مع من "تتلمذ" على أيديهم ولو معنويًا، مثل عبدالوهاب ونجيب محفوظ وصلاح جاهين، ومن عاصرهم من مبدعين مثل نجاة وعبدالحليم وعبدالرحيم منصور، ومن تتلمذوا على يديه واكتشفهم مثل محمد منير وعمرو دياب وغيرهم، دون أن يورد ما يفسر تلك الأستاذية ويبين أثر تجربته بشكل تحليلي، باستثناء ما أورده من تعاون مع أحمد عدوية في أغنية "زحمة يا دنيا"، والتطوير الذي أدخله على الأغنية الشعبية من استخدام للآلات غربية محضة، وبعض الإشارات السريعة الأخرى.

يضم الكتاب معلومات لافتة عن محطات هاني شنودة، وإن انحصر أغلبها حول فرقة "المصريين" التي أسسها نهاية السبعينات. يستعرض كذلك مراحل التكوين والتحول التي خاضها في سبيل بلورة فلسفته الموسيقية، لكن تلك الحكايات المتواترة، يتخللها فجوات متعددة، لا تشرح تحولاتها، ولا تبين في الوقت نفسه التناقضات التي يحملها خطاب هاني شنودة الذي بدأ حياته معاديًا لمشروع عبدالوهاب وأم كلثوم "التقليدي"، ثم انتهى عاكفًا على تأليف مقطوعة شرقية كلاسيكية كما صرح في نهاية الكتاب. كذلك لم يتوقف العمل، أمام تناقض ما ابتغاه مشروع "شنودة" المجدد، وما سلكه شخصيًا للدفاع عن ذلك المشروع من أسلوب يتمسك بإعلاء القواعد القديمة، مثلما جاء في سجاله مع الشاعر حسين السيد حول عدم التزام الأخير بـ"قواعد اللغة العربية"، واتجاهه لاستخدام تركيبات لغوية دخيلة في أغنية "مغرور حبيبي" التي تشبه على حد وصفه لغة "غرسون يوناني".

أنفق حمدي في كتابه، سردًا غير قصير، للحديث عن إنجاز "هاني شنودة" الماضوي، دون التطرق –تقريبًا- إلى جديده أو الإجابة على سؤال ماذا حدث في كثير من المحطات التي خاضها؛ هل اعتزل هاني شنودة؟ متى توقف عن الإنتاج؟ هل توقف إنتاجه أصلًا؟ الرغبة في التعريف بوجود فنان كبير، أنجزت مشروعًا إبداعيًا ضخمًا، وهو أمرٌ محمودٌ، ولكن أفضل ما يعرفُ به المرء ليس ما أنجزه فحسب وإنما ما يزال قادرًا على إنجازه.  
(*) صدر الكتاب في القاهرة عن دار "ريشة".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024