كريستين طعمة لـ"المدن": "أشكال ألوان" ذاكرة ثقافية لكل باحث

حسن الساحلي

الثلاثاء 2018/12/18
احتفالاً بمرور 25 عاماً على تأسيس "الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية" (أشكال ألوان)، الفنية متعددة الأدوار، وغير الربحية، لا بد من التوقف عند مساهمتها، منذ انتهاء الحرب اللبنانية، في خلق وسط فني لبناني يتمحور حولها، من خلال مجموعة برامج، أبرزها منتدى "أشغال داخلية" للمارسات الثقافية في العالم العربي، برنامج "أشغال فيديو" لدعم المخرجين، و"فضاء أشغال داخلية" لتسهيل التعليم، الإنتاج، والبحوث في المجال الفني. إضافة إلى دورها كـ"قابِلة فنية" سهّلت ولادة أجيال من الفنانين المتفاعلين مع سياقات عيشهم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية، والذين أصبح بعضهم مكرساً في العالم العربي والعالم.

أجرت "المدن" مقابلة مع مديرة الجمعية كريستين طعمة، والتي صنّفتها ArtReview في العام 2015 ضمن أكثر 100 شخصية مؤثرة في عالم الفن. وكان الحوار على هامش المعرض الخاص الذي نُظّم بمناسبة ربع قرن على "أشكال ألوان"، بمشاركة أبرز الفنانين(***) اللبنانيين والعرب الذين تعاونوا معها في السابق أو ارتبطت أجزاء من مسيراتهم الفنية بها (تبرع هؤلاء بأعمال لهم، بعضها قديم وبعضها الآخر مخصص للمعرض).

- عند تأسيس "أشكال ألوان" منذ 25 عاماً، هل كنتم تتوقعون الاستمرار حتى اليوم؟ ما الذي كنتم تطمحون إليه يومها؟

نحتفل اليوم بمرور 25 عاماً على لحظة البداية: لقاء الصنائع التشكيلي. لم أتخيل قط أن فكرة تجميل حديقة عامة لها شفاعة الجيرة، بحكم وقوعها تحت شرفة منزلي، وإحيائها بنشاط فني لمجموعة من الأصحاب، ستورطني طوال هذه السنوات في هذا الهم اليومي: ابتكار وتشجيع ودعم مبادرات فنية – ثقافية في الفضاء العام. لقد نشأت فكرة "أشكال ألوان" في اللحظة التالية للحرب الأهلية، في ظل غياب مؤسسات ثقافية رسمية فاعلة، شأن متاحف الفن أو وزارات الثقافة. أردنا حينها لمدينتنا المتعافية أن تجد متنفسّاً لإبداع أبنائها الفني، لا سيما أن ذلك الإبداع الفنّي لم يكن متوافقاً مع صالات العرض واحتياجاتها وما هو مقبول فيها من خطابات وممارسات.

انفتحنا على الشارع: وعقدنا "لقاء" الصنائع الأول، ولم نقُل معرضاً أو مهرجاناً، في حديقة مفتوحة كي يلتقي عابرو السبيل، بالفن في حيز عام مشاع. واستمر عقد اللقاءات المفتوحة طوال التسعينيات: لقاء السيوفي التشكيلي الثاني، فمشروع الكورنيش، وأخيراً مشروع شارع الحمرا. حينها طرحنا أسئلة: ماذا بعد وصول الفن إلى الجمهور وانطلاقه من جدران الصالات؟ ماذا عن اتصال الخطاب الفني والهم المجتمعي بخطابات وهموم المنطقة؟ دشّنا في الحقبة التالية منتدى "أشغال داخلية" الثقافي، الذي جمع فنانين وأدباء ومخرجين وأكاديميين وحقوقيين وفلاسفة وغيرهم، في لقاء ينظم كل سنتين أو ثلاث سنوات، لعقد مناقشات ومحاضرات تصاحبها عروض مسرحية ومعارض فنية وعروض أفلام وإصدارات. لا يتعلق الأمر بمجموعة من الفنانين المترفين المنفصلين عن حال مجتمعاتهم، ولا بنخبة مثقفين أفراد لديهم امتياز العزلة الشخصية. ففي بيروت اليوم، كما في رام الله والقاهرة والشارقة وبغداد والمدن الأخرى.. ما لا يعد من أصحاب الاختصاصات، جميعهم يشكلون نمط حياة ويتبادلون الأفكار ويؤلفون فضاء ثقافياً وفنياً وسياسياً يليق بالمدينة وتطلعاتها. لهذا السبب، لم أكن أريد للجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية، أن تكون فقط عبارة عن غاليري تعرض الفنون أو تنتجها. فكما تلك الحديقة تحت شرفة منزلي هي في خدمة السكان، مفتوحة دوماً لهم، أردت جمعية "أشكال ألوان" عبارة عن فضاء يتصف بالديمومة ومفتوحاً على حاجات المدينة واقتراحاتها.


- ما هو سر استمرار هذه المؤسسة، بينما شهدنا أفول عدد لا بأس به من المؤسسات خلال العقدين الماضيين؟

أعتقد أن روح المساندة والتآزر بين الفنانين وبين "أشكال ألوان" هي السرّ الوحيد. حاولنا دائماً إضفاء حس أُسريّ ودفء العائلة على كل ما نفعله. إن قربنا من الفنانين وممارساتهم وهمومهم هو ما أتاح لنا نوعاً من المرونة والقدرة على الاستجابة للتحولات الفنّية والفكرية، وهو ما أمّن بدوره بقائنا واتصالنا بمجريات الفنون وتحولاتها.

- خلال فترة عملكم، هل لمستم تأثير "أشكال ألوان" في المجال الفني المحلي والشرق أوسطي؟ هل يمكن الحديث عن تأثير عالمي أيضاً؟

لقد تزامن شغل "أشكال ألوان" مع لحظات تحوّل أساسية في المشهد الثقافي اللبناني والعربي، أعتقد أن بإمكاننا اختزالها في لحظات ثلاث: أولاً، انفتاح الفنانين اللبنانيين المعاصرين على الحيز العام والاشتباك مع الجمهور الواسع على نحو مباشر، في حقبة التسعينيات، وهي مرحلة محليّة بامتياز. أعقب ذلك تحوّل آخر، وهو الانفتاح على هموم المنطقة وممارسات مبدعيها ووضع الفن اللبناني والعربي في خريطة الممارسات الفنية الدولية المعاصرة وذلك في العقد الأول من القرن الجاري، ويميزه إطلاق "منتدى أشغال داخلية" وهو أقرب إلى بينالي لبناني دولي. وأخيراً، ثمة منعطف تعليمي وتربوي، حين أطلقت "أشكال ألوان" برنامج "فضاء أشغال داخلية" الدراسي، بغية استكشاف أنماط حرّة، لا تتقيد بالحقل المعرفي، وذات حس نقدي من تعليم الفنون في لبنان والعالم العربي، حيث يسود التعليم الخاص، وحيث يتطلّع الفنانون الناشئون إلى السفر للخارج طلباً للدراسات العليا، إذا ما استطاعوا لها سبيلاً. البرنامج اليوم في عامه الثامن، ونعتقد أنه قد ترك أثراً لا يمكن إغفاله في ممارسات تعليم الفنون في المنطقة، سواء داخل الأكاديميات أو خارجها.

أكرر إصراري على تواصل الفن اللبناني مع الفن في المنطقة، العربي وغير العربي، وهو تواصل ثابرنا عليه. لا فضل للفن اللبناني على فنون المنطقة، ولا العكس، بل إن الثقافة في حالة حراك حيوي وتلاقح دائم. على سبيل المثال، يضم برنامج "فضاء أشغال داخلية" الدراسي كل عام، طلاباً من مصر وإيران وتركيا والعراق وفلسطين والهند، إلى جانب مشاركين من لبنان. لا يعكس ذلك توجها أيديولوجياً أو تحالفاً ما، وإنما إيماناً بإرث ثقافي، وحاضر معاش، ومستقبل منتظر، مشترك ومشتبك.

- هل يمكننا الحديث عن مساهمة لـ"أشكال ألوان" في ولادة جيل أو أكثر من الفنانين في لبنان خلال الحقبة الماضية؟ إن كان الجواب نعم، ما مزايا هؤلاء؟

صحيح أننا انطلقنا بصحبة لفيف من الفنانين اللبنانيين المجددين وقتها في حقبة التسعينيات، هؤلاء صاروا اليوم من أبرز علامات الفن اللبناني. أتمنى ألا تتطلع "أشكال ألوان" يوماً إلى ماضٍ يستجلب الحسرة أو الحنين. "أشكال ألوان" وليدة إرث بيروت الحداثوي بقدر ما هي من صنع جيل شهد الحرب، لكنها أيضاً تحمل بصمات جيل آخر لم يعش الحرب مباشرة، وهو جيل له أسئلته وهمومه وطرحه ولحظته التاريخية التي لم يعد من الجائز تهميشها لصالح الماضي. لقد كان التحلّي بالمرونة والقدرة على استيعاب تطلّعات ورؤى أجيال متعاقبة، على اختلافها، سبباً رئيساً في قدرتنا على الاستمرار والنمو على مر السنوات.

- ما سياسة "أشكال ألوان" الثقافية اليوم؟ هل هناك مشاريع مستقبلية؟

لبنان يعتمد، في الثقافة كما في الحقول الأخرى، على المبادرات الفردية. وأعتقد أن تجربة العقدين الأخيرين في الاقتصاد والثقافة وفي تحولات العمران والسياسة والحراك الاجتماعي، أتاحت جميعها بروز وعي مدني ومجتمع مدني على صلة فعلية بالممارسات الفنية والثقافية. وهؤلاء يكوّنون نسيجاً اجتماعياً عمل على أخذ بيروت إلى الخارطة المعاصرة وأنتج صوره وخطابه ونمط عيشه وذائقته وفكره. مساندة المبادرات الفردية وتقديم الدعم والمشورة هي قضية نلتزم بها.

أيضاً "أشكال ألوان" مصرّة على التواصل الإقليمي من مصر والمشرق العربي إلى تركيا والخليج وإيران وصولاً إلى الهند. فهي إذن، ابنة بيروت، بقدر ما هي ابنة رام الله والقاهرة واسطنبول.

اليوم، في ذكرى اليوبيل الأول لـ"أشكال ألوان"، نطلق معرضاً يضم أعمالاً لـ39 فنانة وفناناً يمثلون عينة واسعة ممن انطلقوا أو تعاونوا أو رافقوا جمعيتنا طوال مسيرتها. كما أننا بادرنا، وبعد جهد مضن، إلى إطلاق منصات تحتوي الأرشيف السمعي – البصري لمجمل ما أُنتج أو قُدم عبر "أشكال ألوان". سيكون هذا في متناول الجمهور، وبمثابة ذاكرة ثقافية هائلة ومادة لكل باحث ومهتم. طموحنا الآن، وبعدما احتضنّا في السنوات الماضية أكثر من 350 طالباً من الفنانين الشباب، أننا نؤسس مدرسة فنون للصغار من مختلف الفئات العمرية، بما يوائم طموحنا في إتاحة الفرصة للمواهب الجديدة لأن تأخذ حظها في اكتساب المهارة والثقافة والقدرة على التعبير والتمكن من الأدوات والوسائط التي تتيح لهم أن يكونوا هكذا فناني بيروت الغد.

- تشهد بيروت اليوم ازدهاراً للمتاحف والمراكز الفنية، بالإضافة للمؤسسات المرتبطة بشركات تجارية. هل تعتبرين هذا التطور صحياً؟ ما موقع "أشكال ألوان" منه؟

لقد كان هدفنا الأساس حين أسسنا "أشكال ألوان"، وما زال، هو تغيير العلاقة مع شروط الإنتاج الفني والعلاقة مع المجتمع... إذ إن المدينة بحاجة إلى دعم شروط التراكم والسجال والتلاقي، كما أنها بحاجة إلى تغيير في نسق الإنتاج الثقافي. إذ إن هناك الكثير من أماكن العرض، لكن ما من أماكن حقيقية للإنتاج. ما زلنا نرى أن دورنا هو احتضان الفنانين والمجموعات والمبادرات والتيارات، وتقديم الدعم والمساندة والنصح والإرشاد، كي يجدوا منصّة يتواجدون فيها. من المؤسف أن نشهد إغلاق مبادرات شابة صغيرة، الواحدة تلو الأخرى، خلال الأعوام الأخيرة، بينما نسمع ونشهد على مشروعات مؤسسات فنّية ضخمة، وهي ظاهرة نرصدها بكثير من القلق، إذ تعكس تحوّلاً جذرياً في ما صار يقيّمه المشهد الفني اللبناني. لقد لمسنا أن "سيولة" المكان وقابليته للتحول وفق تبدل الاستخدام والتوظيف، يخلق فضاء يتيح تشبيك العلائق بين أنماط فنية مختلفة، واستنباط أشكال جديدة من هذه العلائق. وهذا قد يكون أول مركز ثقافي من نوعه في لبنان والعالم العربي، طالما أن الأهداف والأدوار التي يطمح إليها هي المساهمة، ليس فقط في توفير مكان للعرض، بل أيضاً في تأمين شروط ديمومة الإنتاج وتطوير المهارات وخلق مساحة تجمع بين مختلف الممارسات.


(***) من الفنانات والفنانين المشاركين: هايغ آيڤازيان ولورنس أبو حمدان ورانية اسطفان وإنجي إڤينار وخريستودولوس پانايوتو وأحمد بدري وريان تابت ولمياء جريج ودانيال جنادري وجوانا حاجي توما وخليل جريج ومحمود خالد وسمير خدّاج وخليل رباح ومروان رشماوي ووليد رعد وأكرم زعتري وتمارا السامرائي وستيفاني سعادة وروي سماحة وعلي شرّي وطوني شكر وستاره شهبازي ووليد صادق وماندي الصايغ ومنيرة الصلح وباسل عباس وروان أبورحمة وإيتيل عدنان وصبا عنّاب وإيمان عيسى ودعاء علي وأحمد غصين ومنيرة القديري ومها مأمون ومجموعة رقص ميديا وربيع مروّة وأوسكار موريّو وجو نعمه ورائد ياسين وآلاء يونس.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024