هاني نقشبندي: الجوائز لا تخرب الرواية، بل تدمرها(*)

هاني نقشبندي

الجمعة 2018/12/21
(*) طفرة الرواية في العالم العربي، سببها أنها الشيء الوحيد الذي يمكن أن تقرأه من دون مجاملة سلطة أو ممالأة سلطان. بل إن الكثير من الروايات ولدت مصطدمة مع مجتمعها. 

قل لي: ماذا يستطيع أن يقرأ الإنسان العربي اليوم، عدا الرواية؟ هل يقرأ الصحف؟ المجلات؟ كلها إما ممولة من مؤسسات حكومية، أو تعكس توجهات سياسية تفتقر الى الموضوعية والحيادية. الرواية ليست كذلك. على الأقل، غالبية الروايات ليست كذلك. نعم، هناك ما يأتي منها ضمن سياق المجتمع وإرادة المؤسسات السياسية أو حتى الدينية، لكنها في المجمل تكون مخالفة لها. من هنا، فهي تحمل قدراً من الواقعية والصراحة، أكثر مما تحمله النصوص الأخرى، الإعلامية والصحافية على وجه الخصوص. أضف الى ذلك أن الناس في شوق إلى شيء مختلف، وقريب منها. الرواية تلامس هموم الناس، أو هكذا يُفترض أن تفعل أحياناً. وعندما تصبح الملامسة تواصلاً كاملاً، تمسي أكثر وقعاً وقبولاً في نفس القارئ.

عنصر أخير يمكن أن أضيفه، وهو مسألة الظهور. فهناك من يكتب من باب "أنا هنا". لعله يعتقد أن حضوره الإنساني، من خلال الرواية، يخرجه من دائرة المجهول إلى المعروف. لكن مثل هؤلاء لا يلبثون ان يصطدموا بواقع أن الرواية ليست فعلاً ظاهرياً، أو مظهرياً، يعطي صاحبه شأناً في المجتمع. لن تفعل الرواية ذلك، على الأقل في بدايات العمل الأدبي. لذلك، فإن كثيرين لا يستمرون. لعلهم كانوا يتوقعون نجومية العمل الواحد. وهو، فوق أنه لا يتحقق، يعطي نتاجاً أدبياً قد يسيء إلى كاتبه أكثر مما يفيد. الأدب هو غاية تُقصد لذاتها. لن يكون أبداً الوسيلة للوصول. الكتّاب الكبار يكتبون لعشق الكتابة ذاتها، لالتحامهم مع النص. الأدب هو منتهى الغايات، وعندما يكون الوسيلة لشيء ما، يتلاشى. وإن بقي العمل موجوداً، فلن يكون أكثر من شجرة يابسة.

الجوائز لا تخرب الرواية، بل تدمرها.

تصدر، كل عام، آلاف الروايات، على امتداد الساحة العربية. عندما تفوز رواية واحدة بجائزة ما، فمَن ذاك الذي استطاع قراءة كل تلك الآلاف من الروايات كي يقرر أن هذه أو تلك هي أفضلها؟ عندما تفعل ذلك، فأنت تكرّم عملاً أدبياً واحداً، لكنك تسحق آلاف الأعمال الأخرى تحت أقدام النسيان والتجاهل. ذلك أن الناس يتكالبون على الرواية الفائزة، ظناً أنها أفضل ما صدر، وتنسى ما عداها، أو تتجاهله. هكذا تكونُ قد كرَّمتَ زهرة واحدة، وسحقت آلاف الأزهار. فأي حديقة أدبية تنتظر؟ ثم، مَن الذي يقرر؟ لجنة من خمسة أو ستة أو عشرة أشخاص؟ أنت تتكلم إذاً عن ذائقة إنسانية مزاجية، وليست إلكترونية تسير وفق مقاييس محددة. فما تحبه أنت، قد لا أحبه أنا، والعكس بالعكس. لك أن تتخيل ذائقة شخص ما، تحدد لك ما تقرأ وما لا تقرأ. هنا يقع ظلم كبير، ليس على الأدباء وحدهم، وإنما على القراء أيضاً. وسأكرر دوماً ما قال برنارد شو: "قد أغفر لنوبل اختراع الديناميت، لكني لن أغفر له أبداً اختراع جائزة للأدب".

ليست مهمة الرواية أن تنتج بطلاً، بل أن تصنع نصاً جميلاً. أقول أن الرواية هي: نص وقصة. القصة يجب ألا تمثل ربع الرواية. فكل منا يملك قصة أجمل من غيره، ربما. المهم هو كيف تقدم قصتك، وبأي نص وأسلوب. قوة الرواية، أي رواية، ليست في مَن ذهب وراح، ولا في بطل أسطوري يحقق المعجزات، ولا في قصة حب مأساوية أو مفرحة، بل في نص جميل متماسك وقوي. نص يصنع صورته، لا صورة تصنع النص.

لماذا اندفاع الكثير من القراء الى الرواية المترجمة، وإن كانت سيئة؟

أولاً، أعترض على كلمة "سيئة". لا رواية سيئة. ضعيفة ربما. ركيكة ربما أيضاً. لكن صفة "سيئة" جارحة قليلاً في حق أي عمل أدبي مهما كان متواضعاً.

ثانياً، لا أتفق معك في أن الرواية المترجمة هي ما يندفع إليها القارئ، هذا إن كنت تقصد الأعمال الأجنبية المترجمة إلى العربية. أما إن كنت تقصد الأعمال العربية المترجمة إلى لغات عالمية، فلست أعتقد بالمثل أنها ما يدفع القارئ العربي إليها. ذلك أن هذا الأخير لا يعرف، على الأغلب، ما تُرجم أو لم يُترجم الى لغات أخرى لرواية اختار قراءتها. أزيد على ذلك أن كتّاباً كثر، يدّعون ترجمة أعمالهم إلى لغات عالمية. وأعتقد أن مثل هذا الإدعاء، وإن كان صحيحاً، هو وسيلة مهينة لترويج العمل الأدبي. ليس على الكاتب أو الأديب التسويق لقلمه على أساس ما ترجم منه إلى لغات أخرى. فأنت بإمكانك أن تدفع مبلغاً إلى مُترجم ما، ثم تدفع مبلغاً آخر الى دار نشر متواضعة لنشر عملك بأي لغة تريد. فهل هذا عمل أدبي؟ هو حتى عمل تجاري فاشل.

الرواية العربية.. إلى أين؟ لا أعلم، ولا أفكر في الأمر. هي سفينة تبحر. المهم أن تبقى في حركة دائمة. لا أعلم أين سيكون مرفأها التالي. لكني أدعو ألا تتوقف يوماً، سواء في عرض البحر، أو على رصيف جاف. سيأتي يوم، ويحقق كثير من كتّابنا حضوراً أدبياً مميزاً في المحافل الدولية. لكني لست أرى ذلك شرطاً لنجاح الروائي أو الأديب. فالنجاح ليس في الإنتشار، بقدر ما هو في إنتاج العمل الأدبي ذاته.

(*) مساهمة الروائي السعودي، هاني نقشبندي، في ملف "الرواية العربية.. إلى أين؟". وهي ثمرة دردشة في المقهى، على هامش معرض الكتاب في بيروت.
 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024