زمن "طاعون القديس فيتوس"... الرقص حتى الموت

يارا نحلة

السبت 2022/05/14
في صيف 1815، استحوذت على مدينة ستراسبورغ حمى فريدة من نوعها، عارضها الأساسي والوحيد هو الرقص. على حين غرّة ومن دون أي أسباب واضحة، اندفع عدد قليل من سكان المدينة الى الشوارع والساحات في نوبة رقص جماعية استمرّت حوالى الشهرين! بعضهم رقص لساعات وآخرون لأيام بلا توقف، بل من دون القدرة على التوقف، الى أن خارت قواهم وسقطوا أرضاً مسجلين وفيات عديدة كما تشير الروايات التاريخية.

 

في وقت قصير، تحوّل العشرات الى آلاف، وتفشت هذه العدوى على امتداد القارة الأوروبية لتطاول مدناً في ألمانيا وإيطاليا... وأضحت أكبر "رايف" (حفلة موسيقية صاخبة) عرفها التاريخ. اليوم تُعرف هذه العدوى بتسميات عديدة، منها "هوس الرقص"، "حمى الرقص"، و"طاعون القديس فيتوس". ورغم أنها لم تكن تلك المرة الأولى أو الأخيرة التي تتفشى فيها ظاهرة من هذا النوع، اذ تكرّر ظهور هذه الحالة في أوروبا خلال القرون الوسطى، لكن عدوى ستراسبورغ كانت الأكثر والأسرع انتشاراً.

بحسب رواية طبيب عاصَر تلك الظاهرة، ويدعى باراسيلسوس، بدأ الأمر بامرأة واحدة خرجت في حرّ شهر تموز الى عتبة منزلها وراحت تهزّ جسدها كاملاً لأيام متتالية، بشكلٍ قهري وهوسي وكأنها في حالة غيبوبة وتفكّك نفسي. خلال أسبوع، انضمّ اليها العشرات من الناس، من الراشدين والأطفال، لكن طغى عليهم العنصر النسائي. طبيب آخر، هو الألماني جاستيس هيكر، وصف في كتابه "الموت الأسود، حمّى الرقص"(1888) حفلة الجنون هذه كالتالي: "شكلوا دوائر يداً بيد، وبدوا كأنهم فقدوا كل سيطرة على حواسهم. من دون اكتراث لنظرات المارة، استمروا في الرقص لساعات وساعات، في هذيان برّي، حتى سقطوا مطولاً على الأرض في حالة من الإرهاق. ثم اشتكوا من شعورهم بالقمع الشديد، وتأوهوا كما لو كانوا في عذابات الموت، الى أن تم لفهم بأقمشة مربوطة بإحكام حول الخصر، ليستعيدوا عافيتهم ويتوقفوا عن الشكوى، حتى الهجوم التالي".

ما زالت هذه الواقعة التاريخية المحيّرة محط استفهام حتى اليوم، فأسبابها وآلياتها ما زالت مجهولة، وكل المحاولات لتفسيرها تقع في خانة الفرضيات غير القابلة للإثبات. من هذه النظريات ما ينتمي الى ميدان الطب العصبي، ومنها ما يرجعها الى تفسيرات سيكولوجية، فضلاً عن التحليلات التي تقاربها من زاوية سياسية واجتماعية.

في الشق الأول، ونظراً الى تقارب المناطق الجغرافية التي تفشّى فيها هذا "الوباء"، يرجّح بعض العلماء نظرية التسمّم الكيميائي بفطر أرغوت، الذي ينمو على المحاصيل الزراعية وخصوصاً الشعير، مسبباً هلاوس وتشنجات وهذياناً في حال استهلاكه، وذلك جرّاء احتوائه على حمض ليسرجيك، وهي المادة المهلوسة الموجودة في مخدّر LSD. للوهلة الأولى، تبدو هذه النظرية الأكثر اقناعاً، فالمسببات البيولوجية هي الأكثر أهليةً لتفسير سلوك شاذ الى هذا الحدّ. لكن هذه النظرية استُبعدت، على اعتبار أن هذا المخدّر لا يمكّن مستهلكيه من الرقص لأيام متواصلة. فضلاً عن أن بعض المناطق المتأثرة بحمى الرقص لم تكن تستهلك الشعير.

في المقابل، يضع بعض المؤرخين هذه الظاهرة في إطار "الهستيريا الجماعية"، خصوصاً لما تحمله من أبعاد وتعبيرات دينية تقف خلفها مسببات نفس-اجتماعية. فقد كان يعتقد أن هذه النوبة القهرية هي نتيجة مسّ شيطاني سببه غضب إلهي ولعنة من القديس فيتوس. ومع اقتناع الناس بهذه السردية وبوجوب معاقبتهم النابع من شعور كاثوليكي بالذنب، أخذ هذا "المرض" ينتقل من شخصٍ الى آخر، بما يعرف في علم النفس بقوّة "الإيحاء". هذا الاعتقاد كان شديداً في الأديرة وبين الراهبات اللواتي كنّ يحيَين صراعاً بين رغباتهن اللذوية المحرّمة وشعورهن بالذنب، فكان احباطهن النفسي يترجم من خلال عوارض جسدية حادّة، وكأنها طريقة الجسد في التمرّد على حرمانه وقمعه.

وعليه، تُبيّن "حمّى الرقص" سلطة السياق الثقافي في فرض أشكال التعبير عن المعاناة والتخبط النفسي. فإن كانت هذه المعاناة الجماعية تحمل اليوم عنوان الاكتئاب والقلق، وفي القرن الماضي علامة الهيستيريا، فهي قد تمظهرت في القرن التاسع عشر- وما قبله- من خلال الرقص الهوسي.

لكن الملفت في تعاطي السلطات مع هذه الظاهرة، أنّها وصفت المزيد من الرقص للمصابين. فقد خصّص المسؤولون في ستراسبورغ، مساحات خالية للراقصين، وقاموا حتى بتشييد مسارح، وأتوا بعازفي إيقاع وبرجالٍ أقوياء من أجل تثبيت الراقصين في أمكنتهم ومنعهم من التهاوي، اعتقاداً منهم بأن مواصلة الراقصين لهذه الحركة المحمومة ستخلّصهم من المسّ والمرض. لكن مع فشل هذه الاستراتيجية، انتهاءً بموت بعض الراقصين، تبنّى حكام المدينة نهجاً آخر يتمثّل في منع الموسيقى والرقص في المجال العام، واقتيد الراقصون الى ضريح مخصص للقديس فيتوس حيث ارتدوا أحذية حمراء وقاموا بالصلاة والحجّ. خلال أسابيع، توقف معظمهم عن الرقص وانحسر الوباء، في تأكيد على قدرة الإيحاء على خلق الاضطرابات ووضع حدّ لها.

إلى جانب العامل الديني، يُعرَف عن تلك المرحلة أنها كانت فترة أزمات ومِحَن، منها المجاعات والصراعات الاجتماعية والدينية، فضلاً عن انتشار الأمراض والأوبئة. إن هذه العوامل مجتمعةً تشكّل أرضيةً خصبة لنشوء اضطرابات وهستيريا من الطراز الجماعي. ورغم استمرار هذه الشروط الاجتماعية حتى يومنا هذا، بل حتى تفاقمها، فإن التعبير عنها بهذا الشكل ما عاد ممكناً، مع انهيار النظام العقائدي الذي يسندها من ناحية، ومع تبدّل موقع الجسد وعلاقته بالتحوّلات النفسية في الثقافة الحديثة. فالكرب الجماعي اليوم يُعبّر عنه بالسّبات أو انعدام القدرة على "النهوض من السرير"، في حين أنّ خياراً من هذا النوع لم يكن مطروحاً بالنسبة لمجتمعات المزارعين. في المقابل، لم يعد الرقص الجماعي والمحموم، الذي يستمرّ أياماً وليالي تحت وطأة المخدرات والإيقاعات المتكرّرة، يعدّ عارضاً مرضياً، بل سلوكاً احتفالياً مقبولاً اجتماعياً وخالياً من وصمة الجنون.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024