كوزموبوليتانية وانضباط
سجّلت فاطمة سعيد في ألبومها، خمس أغنيات عربية، إضافة إلى أخرى بالفرنسية والإسبانية. في الغلاف، تظهر السوبرانو المصرية مثل إحدى جميلات "ألف ليلة وليلة"، تزيّن صدرها قلادة فاخرة من تصميم عزة فهمي. أرادت سعيد، عبر الألبوم، إلقاء الضوء من جديد على التراث الغنائي والموسيقي العربي والغربي. ووفقاً لما جاء على لسان سعيد في حوار مع الصحافة الألمانية عقب صدور ألبومها، فهي تريد بناء جسور بين العالم العربي والأوروبي عبر ما تقدّمه من موسيقى: "الأندلس تأسست في القرن الثامن على أيدي العرب. ولهذا السبب، الموسيقى الإسبانية في الألبوم قريبة جداً مني من الناحية العاطفية. الأدب الفرنسي والرسم والموسيقى في أواخر القرن التاسع عشر، مثل موسيقى"شهرزاد" لموريس رافيل؛ كلها تأثرت بالاستشراق. اليوم نتحدث كثيراً عن الحواجز، لكن في الواقع، يتوجّب علينا دائماً أن نتعامل مع بعضنا البعض".
في طفولتها، التحقت سعيد بروضة أطفال ألمانية في القاهرة، ثم المدرسة الألمانية سان شارل بورومى، إحدى المدارس الكاثوليكية للبنات. "التعلُّم في بيئة كوزموبوليتانية، والتسامح والاحترام المتبادل هو أسمى أهدافنا"، كما جاء في بيان رسالة المدرسة، التي أسّستها الراهبات العام 1904 وعلّمت فتيات مسيحيات ومسلمات على السواء. "التعليم يتعلّق بالإنسانية وليس بالدين. في ألمانيا يتحدث الناس دائماً بصوت عالٍ عن الاختلافات الدينية بين الناس. ليس هذا هو الحال في مصر. أنت أيضاً لا تسأل الشخص الذي تتحدث إليه عن الدين الذي ينتمي إليه. لأن ذلك سيكون بعيداً من اللباقة"، تقول سعيد.
وعن وصف زملائها الإيطاليين في ميلانو لها بأنها "ألمانية جداً"، تقول سعيد: "الانضباط الألماني الذي تعلمته في المدرسة جلب لي الكثير في حياتي، خصوصاً في مهنتي كمغنية. لقد ساعدني في الحفاظ على صوتي لائقاً، لا سيما أثناء الإغلاق العام في الربيع (بسبب كورونا)، عندما لم تكن هناك حفلات، أو حتى حافز للتدرّب"، مضيفة اعتزازها بقول والدها، وهو رجل أعمال وسياسي ليبرالي، في ذلك الوقت: "العالم سيكون جاهزاً لأولئك المستعدين"، ما زاد من دافعها للممارسة والتدريب.
خلال الوباء، اكتشفت سعيد حبّها للغناء. ورغم تقديمها بعض العروض من جديد، إلا أن حالة عدم اليقين لم تنته بعد بالنسبة إلى المغنية المستقلة. لدى سؤالها عن أهدافها، أجابت: "لا أقلق كثيراً بشأن المستقبل. الأماكن أو الحفلات الخاصة حيث يمكنني الغناء، ليست أهدافاً حقيقية بالنسبة إلي. أريد أن أكون صادقة مع نفسي وأن أكون سعيدة، بالغناء أو من دونه".
ابنة أبيها
إلى جانب الانضباط، يأتي الفضول والمغامرة والدعم. أرادت أن تدرس ما تريده وتحبّه، وكان لزاماً، لمتابعة تلك الدراسة، وجود الأسرة الداعمة: "أنا ابنة أبي، وهو لا يستطيع أن يردّ لي طلباً. للمفارقة، فمن حسن حظّي، أنه في أسرة مصرية تقليدية، ما زال الأبّ هو صاحب القرار. لأنه دعم أمنيتي، المستغربة بالنسبة للكود الأخلاقي السائد هناك، بينما كانت قريباتي النساء مرعوبات".
استفادت سعيد من ذلك الامتياز الأبوي في مجتمع ما زال أبوياً إلى حد كبير. لكنها تأخذ حياتها كمغنية وفنانة على محمل الجدّ، لا تريد الاكتفاء بملء بعض الأماكن الشاغرة أو المخصصة للأقليات في مؤسسات ومشاريع أوروبية تحاول مواكبة المناخ الثقافي السائد، وهو إغراء من السهل الوقوع فيه. لكنها أرادت الاستمرار في التعلم بعد أكاديمية "لاسكالا"، لتحصيل ما لم تدركه بعد. لذلك، في الوقت الحالي، فضّلت العمل المستقل على المشاركة الثابتة السريعة والمغرية.
إنها تمثل التنوع المطلوب، وهي تعرف ذلك جيداً. بالطبع، دور الأوبرا وشركات التسجيلات توظّف فاطمة سعيد بسبب مظهرها وأصولها. لكن هذا لا يزعجها. على الأقل عندما تدرك أن الأمر سيتعلّق بالغناء نفسه أكثر من إكمال لوحة لونية بشرية تحت مسمّى التعدد والتنوع.
بهذا المعنى، تجوز مقاربة مشاركتها في الحفلة الباريسية الأخيرة، مثلما اختيارات أغنيات ألبومها وترتيبها: "كان المهم بالنسبة إلي، قبل كل شيء، هو الانفتاح على اقتراحاتي الموسيقية. عملنا لفترة طويلة جداً على تسلسل الأغنيات، بحيث يجذب جمهوراً واسعاً ويتوافق مع أذواقي الموسيقية وتفضيلاتي. يتعلّق هذا بشكل خاص بتفسيراتنا للموسيقى الغربية والشرق أوسطية من الماضي. نحافظ على أفكار الملحن، لكننا نوسّعها بعناصر تبدو متماسكة بالنسبة إلينا".
عبور الحدود
هكذا، يذهب منهجها إلى درب أشبه ما يكون بمعاكسة فكرة التعددية الثقافية، لا لرفضها بل لدعم منتجها، لكن من مدخل مغاير للتقليد الأوروبي الشائع مؤخراً. في ألبومها، يمكن العثور على صوت سوبرانو خفيف وقوي في آن، يزدهر بأحلامٍ وزهور يغنّي لها، في مقطوعات بستّ لغات لـ13 ملحناً تمتد على مدى ثلاثة قرون.
تستحضر فاطمة سعيد أضواء الأندلس، لتسقطها على مصر، في رحلة صوتية تؤلف مزيجاً موسيقياً وزمنياً وثقافياً، وتقطّره في أغنية لا تتعدى بضع دقائق. يمتد هذا النهج بدءاً من مقطوعة "شهرزاد" لموريس رافيل، التي تستحضر "ألف ليلة وليلة" باعتبارها حلماً شرقياً غامضاً، مصحوبة بنصٍ للكاتب تريستان كلينغسور عن الشوق إلى دمشق ومدن فارس، عن عمائم حريرية ومآذن تسبح في السماء. تُختصَر المقطوعة هنا في نسخة البيانو (عزف: مالكولم مارتينو)، ويُسمَع فيها صوت ناي، يعطيها طابعاً شرقياً بديلاً من استشراق الأصل، حتى نصل في نهاية الألبوم إلى أغنية مصرية خالصة ("أنا بنت السلطان" لجمال عبد الرحيم) مُعادة صياغتها بحرّية، لتكتمل دائرة عبور الحدود الموسيقية والزمانية.
بالكاد يلاحظ المرء كيف تتغير التناغمات، وكيف تتحوّل الرحلة من الغرب إلى الشرق، وكيف يصبح الصوت شرقياً أكثر فأكثر، من الغيتار والفلوت إلى رباعية وترية، ثم إلى الناي والقانون. والنتيجة؟ رحلة بتوقفات وآثار تشمل مانويل دي فالا، وهيكتور بيرليوز، وجورج بيزيه، وفيديريكو غارسيا لوركا، وفيكتور هوغو، وجبران خليل جبران، والرحبانية، وجمال عبد الرحيم، ونجيب حنكش.