توني موريسون وآصلي أردوغان: عن الآخر المغضوب عليه

نزار آغري

الخميس 2020/10/08
تتقاسم الأميركية توني موريسون، حاملة جائزة نوبل للأدب العام 1993، والتركية أصلي أردوغان، التي فازت بجائزة سيمون دو بوفوار العام 2018، حلماً واحداً: رفع الظلم عن كاهل مجموعة من البشر خطأها الوحيد هو أنها من لون آخر أو عرق آخر.
 
كرست توني موريسون حياتها، ومواهبها الإبداعية، في السعي لمحو آثار العار العنصري الرهيب الذي كان يحول حياة السود في الولايات المتحدة إلى جحيم. الشيء نفسه فعلته، ولاتزال تفعله أصلي أردوغان. بالنسبة إليها ليس هناك عار أكثر فظاعة من عار العنصرية التركية الرهيبة بحق الأكراد. وفي الحاتين تلعب العنصرية دور السم الذي يسري في جسد ويهدد بهلاك الجميع.

قبيل وفاتها أصدرت توني موريسون كتاب "أصل الآخر"، وهو يضم بضع محاضرات كانت ألقتها في جامعة. كذلك أصدرت أصلي كتاب "حتى الصمت يحرمونك منه". وهو يضم مجموعة مقالات في ما يجري في ثنايا الواقع التركي. وفي الحالتين هناك مقولة واحدة تتمثل في أن القطبين النقيضين لا يمكنهما أن يتعايشا: الظالم والمظلوم. لا يمكن للمجتمع أن يهدأ ويستقر إلا بزوال الجذر الذي يغذي الوباء: العنصرية.

العنصرية مرض قاتل لا يمكن معالجته. يجب استئصاله. ترى مورسون، وكذلك أردوغان، أن العنصرية لا تلحق الأذى بالضحية وحدها بل هي تصيب الجاني نفسه. تحوله إلى وحش دموي مدمن على اقتراف الظلم. فمن يحمل السوط يرى أن من حقه التمتع بلذة استعماله. من أجل الإستمرار في التمتع بهذه "اللذة"، ينبغي ترسيخ سردية تقنع العالم أن المظلوم يستحق الظلم الذي ينزل عليه.

هناك سعي دائم لإظهار الآخر (الأسود في الولايات المتحدة، الكردي في تركيا) كنوع غريب من البشر. نوع غير سوي، غير متحضر، غير مطيع، غير ذكي، أي مجموعة هائلة من الأوصاف التي تبدأ بـ"غير" تبريراً لما ينزله به السيد (الأميركي الأبيض، التركي) من فظائع. ما يتلقاه يستحقه لأنه لا يتصرف بطريقة جيدة. الجاني يفعل ذلك ليس بسبب خلل في النظام السائد بل بسبب طبيعة الضحية المتوحشة، غير المروضة.
لسان حال السيد: أقوم بتعذيب هؤلاء لأنهم وحوش. أنا أسدي لهم وللبشرية خدمة جبارة: أروضهم. أقلم أظافرهم.

لهذا يمنع على الآخرين التعاطف معهم (السود والأكراد)، لأن من يتعاطف مع الوحوش هو وحش مثلهم.
نحن، المتحضرون، المتمدنون، الطيبون، الرقيقون، نضطر لأن نتعامل معهم بهذه القسوة من أجل مصلحتهم. كي نزيل من نفوسهم غريزة التمرد ونزوة العصيان. إن لم نفعل ذلك سوف تخرج الأشياء من سيطرتنا. إن منحنا له، هذا الآخر، الغريب، العاصي، الفرصة في نيل أشياء أولية، كاللغة والثقافة والأعياد الخاصة والتقاليد والأفراح…الخ، سيأتي اليوم الذي يطالب فيه بأشياء أكبر. سيطالب بالوقوف معنا موقف الند.

في السردية التي رسخها المستبد يجري سحق الحقيقة بحيث يتطلب الأمر وضع هذه الكلمة بين مزدوجين حين نستعملها، وذلك للإشارة إلى أن غيابها أقوى من حضورها.
لقد تطور تعريف الآخر مع الزمن: الكردي في تركيا، مثلاً، كان على الدوام يوصف بأنه: تقسيمي، يهدد النقاء العرقي، عميل للأجانب. الآن هو إرهابي، كافر.

في المقابل تطورت الإجراءات الرادعة التي رافقت هذه السيرورة: الإخراج من الدولة (اتفاقية لوزان)، الحرمان من الهوية القومية، إقصاء التاريخ والذاكرة الجمعية، إعدام القادة، ارتكاب المجازر المروعة، التغيير الديموغرافي. الآن تجري عمليات تأديب وعقوبة جماعية، داخل تركيا وخارجها.

يجبر الآخر على التخلي عن كل ما يمكن أن يذكره بأنه يملك شيئاً في البلاد التي يعيش فيها. هو ليس في وطنه رغم أنه يعيش على أرضه. هو منفي في المكان الذي ولد فيه. إنه خطر على الدولة التي يفترض أنها دولته. 

هناك عملية مستمرة من إفراغ ذاكرة الجميع، القومية السائدة والقومية المغلوبة على أمرها، وحشوها بأخبار وقصص وسرديات كاذبة، مختلقة تماماً. أي عملية ترسيخ للأخبار المزيفة fake news.
الآخر موجود بحكم الوقع، لكن لا وجود له في السردية السائدة. لا في الشارع أو المدرسة أو الجامعة أو الجامع أو الجيش أو الإعلام أو الأدب. 

يخلو الأدب التركي من الأكراد. ليس لهم حضور كمجموعة عرقية أو قومية. لا ذكر لما جرى لهم، لا مجازر. لا إعدامات. وإذا حضر الكردي في نص روائي أو شعري، هنا أو هناك (بما في ذلك عند ياشار كمال، الكردي)، فكطيف عابر. يحضر لا ككائن بشري بل كشيء. كشيء من دون خصال. خارج سياق أي تشكيلة حياتية جامعة. ليست لهم كينونة ثقافية أو تاريخية أو إجتماعية أو أسطورية. يحضرون كعناصر ميتة من الطبيعة، مثل صخرة، أو طائر، أو جدول أو غيمة أو طريق. وفي كتاب "مشاهد من بلدي" يتكلم ناظم حكمت عن عتال كردي. بل إنه لا يقول أنه كردي. إنه عتال من ديار بكر، له شارب، وجنتاه غائرتان. فقط.
وعند أليف شافاق يحضر الكردي، كشخص منفرد، معزول، بعيداً عن سياق قومي جامع. 
وفي كل روايات أورهان باموك لا ترد سوى إشارات إلى فتيات ينتحرن ومطاردة الدولة لإرهابيين من حزب العمال. ليس هناك أي حضور للأكراد كشعب، كقوم، كجماعة، لها خصوصيتها.

حتى ياشار كمال، في رواياته التي تجري كل أحداثها في المناطق الكردية (في السردية التركية اسم المنطقة هو جنوب شرق البلاد، ليس كردستان أو المنطقة الكردية) يقول مثلاً الآغا الكردي، كما لو أن الناس الذين من حوله ليسوا أكراداً. 

في "قلب الظلام" يصف جوزيف كونراد المنطقة التي تجري فيها أحداث الرواية بجغرافيتها ولغاتها وعاداتها وطقوسها، ككتلة متلاحمة يخترقها الأبيض عنوة (البيض هم بضعة أفراد متناثرون على لوحة الوجود الإفريقي وليس العكس). هؤلاء البيض حولوا المنطقة إلى قلب ظلام. مرتع للظلم والسحق والصمت. تقول توني موريسون إن إفريقيا على يد المستعمرين كانت مثل جنين يريد أن يخرج إلى النور ولكن القابلة كانت تجهضه دوماً. هذا ما زالت تفعله القابلة التركية للجنين الكردي. في أي بقعة من جهات كردستان.

يضفي السيد، المستبد، الشرعية المدنية والدينية على حضوره في قلب موطن السكان الأصليين وينزع منهم أي شرعية للوجود العلني والقانوني. هؤلاء غرباء، هبطوا من السماء، أو جاء بهم عدو ما. وهم، لهذا إنفصاليون، وإرهابيون. أي أن الصورة معكوسة. يتم ترسيخ ذلك بشكل مستمر ومن دون توقف أبداً. سنة وراء سنة، شهراً بعد شهر، يوماً بعد يوم. في كل لحظة. وعبر كل قنوات الخطاب. ترتدي هذه السيرورة ثوب القانون، المحلي والدولي، بحيث يصير أي سعي لتغيير واقع الحال عملاً غير شرعي، مخالفاً للقانون، تمرداً، إرهاباً، جزاؤه، بالطبع، السحق والإدانة محلياً ودولياً.
لهذا اعتقلت أصلي: تهمتها: الكتابة في جريدة مؤيدة للأكراد.التهمة: إرهاب. ولهذا صمت باموك وشافاق: الخوف.

وضعوا آصلي أردوغان في زنزانة انفرداية. كان هذا بالنسبة إليها عذاباً لا يوصف. وحين كانت توني موريسون في الثانية من عمرها قام السيد الأميركي الأبيض، بإضرام النار في بيت أهلها لأن والدها عجز عن القيام بما طلبه منه السيد: زرع الخوف.
تقول توني موريسون إن السردية التي لفقها السيد الأبيض هي لعنة. لعنة للأبيض والأسود على السواء. تقول آصلي إن السردية التي لفقها الاستبداد التركي بحق الأكراد هي لعنة. لعنة للتركي والكردي على السواء. اللعنة تحل على الناس حين يظن طرف أنه سيد وأنت الآخر عبد. أنه سيد لأنه أبيض والآخر أسود. أنه سيد لأنه تركي والآخر كردي. حين تتكرس العنصرية وتتحول إلى فيروس قاتل يفتك بالجميع.
السرد الروائي، تقول موريسون، يوفر لنا الفرصة لأن نكون الآخر وأن يكون الآخر نحن.
لا توجد أعراق بشرية. هناك عرق بشري واحد. قد تختلف الأشكال، لون الجلد، لون العينين، القامة…، قد تختلف لغاتنا وثقافاتنا ودياناتنا..، ولكننا بشر. ولأننا كذلك فنحن متساوون. ليس ثمة أنا والآخر. كلنا نحن، وكلنا الآخر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024