عن العلَوي اللاذقاني.. "آكِل الحلاوة"

بشار جابر

الأربعاء 2018/02/21
لا يبدو الطعام في الساحل السوري منافياً لمناخها الاجتماعي والسياسي، الصيغ التواصلية للمجتمع هنا، لا تمل من صناعة المصطلحات واختزانها، مصطلحات مختصرة وغريبة جداً، وتحمل تقييماً مهيناً ومركباً لما تصمت عنه الطوائف في علاقتها العامة مع بعضها البعض.

نشأتُ في حي سُنّي، في وسط سوق اللاذقية تقريباً الذي ينتظر ريف اللاذقية العلَوِي لكي يصحو من النوم، وينطلق نحو السوق من أجل شراء ما يحتاج. في إحدى صياغات هذا الانتظار كانت المسميات التي تعلق في ذهني للعلويين المُنتظر نزولهم "نزل أكِّيلة الحلاوة" و"آكلو النمورة" و"آكلو النمورة الصفراء"، كانت هذه المسميات اختصارات تاريخية لحاجة العلوي الذي ينزل من الريف نحو المدينة، وهذه حاجته القصوى من المدينة، أو التي احتُفظ بها للعلويين كذاكرة. كانت الحلاوة المصنوعة من السمسم هي رغبة العلَوي الريفي من المدينة، وهذه الحاجة الأحادية تطورت مطلع التسعينات، فبات العلَوي يتجرأ على شراء النمورة، وغيرها من الحلويات. هذه الاصطلاحات شكلت ذاكرة جمعية. ورغم أن  الريف (السني والعلوي) كان فقيراً في عالم حلويات المدينة، إلا أن الاصطلاح أخذ شكلاً جماعياً ورضائياً من السُنّة اتجاه العلويين، كتحويل مبطن لانتقام المجتمع السني من شبيحة العلويين ومن سياسيهم.

هذا ليس شراً محضاً. فتخلُّف الريف السوري إجمالاً جعل سُكان المدن منذهلين. كيف تصبح السلطة كلها في أيدي من لا يعرف من الحلويات إلا أقلها إبداعاً وطعماً وفائدة؟

هذا اقتسام معنوي للسلطة، للحق فيها، للمجاهرة الشفوية بالخصومة الحادة عبر الطعام والمأكول، عن الخصومة الفاجرة التي يسحبها تاريخ سلطة الأسد وضباطه على مجتمع غير تضاريسَه الريفُ والضباط. ينسحب الطعام كمتغيرٍ على قادة سوريا ومثقفيها من أهل المدينة الذين اختفوا كلهم من الواجهة، ليأتي العسكر (الريفيون) ويملأوا المدن برغباتهم.
هذه الخصومة تأخذ شكلاً مستمراً، ولا يتناهى مع التشهير الواضح القاسي الذي يتم توارثه بعناية، مع إضافات حديثة تخرج من نطاق الطعام الحلو، نحو الطعام المالح، كالفلافل صباحاً. فمحلات الفلافل في المدينة تبدأ عملها منذ السابعة صباحاً، من أجل سكان الريف الذين يُفطرون على الفلافل مثلاً، على عكس سكان المدينة، الذين يرون هذا فخاً لإدانة العلويين.

سكان المدن الساحلية ذاتهم يجهلون أن أشهر الحلويات التاريخية في المدينة لم تكن رائجة، كالبقلاوة والكنافة وغيرها. إذ كانت حكراً على مجموعة من أغنياء المدينة. أما الحلو الأشهر والأكثر رواجاً فكانت "الكسيبة"، وهي عبارة عن عجينة سميكة مستخلصة من السمسم. كان هذا الطعام الحلو، هو غذاء المدينة الأكثر توافراً وجودة. هذا لا يعتبر ثقافة مهينة وسيئة، ولا يتبادل سكان المدن، "الكسيبة"، تبادلاً مهيناً في ما بينهم. الطبقات لا تظهر أبداً كمتاح للتبادل القيمي والسياسي والرمزي، بل يتم التحفظ على الفقر المديني غذائياً وثقافياً، في وجه ثقافة تذوقية تفرض قيماً مهينة للآخرين، أبناء السلطة ومقربيها. كان خلق الريف قيمياً، واجباً، أكثر من الحقد الطبقي وسماته.

وهذا ما لم يسكت عليه الريف. هذا التصور يحمل معنى معاكساً، معنى مخبوءاً انتقامياً، لفرض قيم شهوية رغبوية حكر على جماعة، على حساب جماعة أخرى. كل أصحاب مهن الحلويات التقليدية لا يدربون شباناً علويين، والعلويون لا يسعون إلى هذا. لقد كُتب لسُنّة المدينة الحفاظ على فرض القيم الرغبوية التذوقية واتقانها. حصلوا على فن الحلويات وقيمها الحضارية، في مقابل فن السلاح والتسلط. هذا شعور يومي ينتاب من يعيش في الأحياء السُنّية باحتكارهم اتقان الملذات على حساب من يحتكر ملذات السلطة.

يتبادل الناس قيمهم المفروضة على حساب أفواههم، مناخ الاستبداد الأسدي ينمو بمصطلحات ورموزٍ لا تنتهي. هذا الباطن العقيم، يقسم السوريين بتوارث سحري. بعض المثقفين العلويين أنتجوا خطاباً صحياً في وجه الاستعلاء السُنّي، في الجلسات اليومية أيضاً. يقول العلويون من ابناء الريف إن فائدة البرغل مع العدس في أكلة المجدرة أرفع شأناً من استخدام الرز مع العدس. فهذا التطفل الغربي للرز ليس مفيداً، البروتينات في البرغل تجعل الأجساد أقوى وتكثف من الأحماض الأمينية. هذه ليست مقالة علمية، هذه قيم يتفاعل فيها الساحل السوري لإنقاذ فراغ الثقافة والسلام والمواطنة والندية وأي قيمة سياسية واجتماعية ذات معنى. 
ما إن صرخت الأفواه بالحرية، كان على المدينة أن تزيد انفعالاتها. المصطلحات كُشفت، وازداد تبادلها عبر "فايسبوك" وفي الشوارع. وانتقلت هذه اللغة الرمزية إلى انتقامات السجون. فانتقم المسلحون من الذواقة المدنيين، وفي السنوات الأخيرة من الثورة، قُسمت المدينة بين العلويين والسُنّة. بات محترفو الحلويات، من العلويين، كثيرين. الأسواق اقتُسمت، ومصطلحات الطعام ستبقى للأبد رغم الانقسام الطائفي اللعين. إلا أن كلاً من العلويين والسنّة يخلق، تحت وطأة الاستبداد العدمي لآل الأسد، عناوين لا تنتهي، والقيمة المفروضة عبر الطعام ستبقى، طالما أنها بدأت وكأنها أحد الوجوه الجمالية والثقافية للساحل.

في ثلاثينيات القرن المنصرم، وصلت أم كلثوم الى ساحل اللاذقية. في منتصف الحفلة، وقف منح هارون، أحد أهم أعلام مدنية اللاذقية، وقال شعراً في أم كلثوم مادحاً، إياها بكل أنواع الحلويات الموجودة في المدينة:

ما أنا فاسمعي قولي فلستُ أرى بأساً بأن أدعيك الصوت في الحاك
(كنافة) رقة (معجوقة) أدباً ومن (حلاوة) حسن الصوت أعطاك

هناك كان الطعام قيمة مدنية، قيمة حضارية عامة، لم يصل الدرك التبادلي القيمي السوري إلى هذا الحد قبل وصول قساة "البعث" من الريف. بات انتاج الطعام قيمة طائفية أيضاً. لُقمنا الصغيرة سموم في المشافهة. لقد نجح النظام في جعل مجتمعه المُسيطر عليه مهووساً بترميز كراهيته. نحن أبناء هذه المنطقة نخشى ذكر الطعام، تاريخ الأطعمة وذكرها يملك بهاراً طائفياً يلهث لكي يُسكتنا. قيمنا التبادلية فيها فرض غذائي قذر. اليوم وغداً، لن ينسى السكان هنا وهناك، كيف يُصارع البرغل رز المدينة...
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024