"بافاروتي" لجون هاورد: ابن الخباز "تينور"...وجمهوره لا يبالي بالمطر

علاء رشيدي

الجمعة 2019/07/19
يبدأ فيلم "بافاروتي" لجين هاورد بوثيقة فيديو مصورة عن رحلة قام بها لوسيانو بافاروتي إلى قلب غابات الأمازون في البرازيل في العام 1995، وذلك للبحث عن مسرح يقع في قلب الغابات المعزولة. هناك، غنى كاروز منذ ما يقارب المئة عام، ويريد بافاروتي إيجاد ذلك المسرح ليقدم فيه أدءاً غنائياً أيضاً، كأنه يتواصل مع ملهمه كاروز بعد كل هذه الأعوام. يوضح لنا الفيديو - الوثيقة الرحلة النهرية التي قطعها بافاروتي مع فريق التصوير للوصول إلى هناك، حيث سيقدم بافاروتي أمام جمهور محدود بعضاً من الأغنيات، إنه الغناء في مكان يحمل في داخله شحنته الشعورية القوية من خلال ما جرى به سابقاً في التاريخ.


يقدم فيلم جون هاورد شخصيته الأساسية، بافاروتي كواحد من أهم الشخصيات في تاريخ الغناء الأوبرالي، لقد عرف بالأوبرا لجمهور كبير من المستمعين حول العالم، متنوعي الجنسيات والثقافات. يقول بافاروتي: "لم أرغب في أن أؤلف أوبرا بنفسي، ربما ينتقدني البعض في ذلك، لكنني ركزت على إيصال مؤلفات الموسيقيين الآخرين إلى بقاع عديدة من العالم".

المرء يكتشف نفسه عبر الزمن 
يطلعنا الفيلم على طفولة بافاروتي الذي ولد خلال الحرب، وهذا ما سيدفعه لتقديم المساعدات ويقيم الحفلات للأطفال في مناطق النزاعات والحروب. ولد بافاروتي لأب خباز ومغني تينور، وهو نفسه من درّب بافاروتي على الغناء مع خمسين طالباً آخرين. عدم نجاح والده كمغني تينور، أجبر بافاروتي على العمل كمعلم في مدرسة ابتدائية، لكن والدته استمرت في تشجيعه: "حين أسمع ابني يغني يتحرك شيء في قلبي، لا يحدث ذلك حين يغني والده، لا بد أن ابني يمتلك موهبة خاصة". في العام 1955، عاد بافاروتي إلى التدريبات المستمرة لأجل إتقان الغناء، وفي العام 1961 كان دوره الأوبرالي الأول في أوبرا "البوهيمية"، من تأليف جياكومو بوتشيني، وهي حكاية عن أربعة فنانين يعيشون حال من التشرد، والتجريب الفني، والتجارب العاطفية. أداءات الأوبرا البوهيمية الأولى هذه يقدمها لنا الفيلم كوثيقة مهمة عن أولى الأدوار المسرحية والغنائية التي قدمها بافاروتي.

 


في حياته العاطفية، تزوج بافاروتي باكراً، وأنجب ثلاث فتيات خلال الأعوام الأربعة من زواجه، فنتجت عن ذلك صعوبات مالية عايشتها العائلة، لكن حدثاً استثنائياً سيؤدي إلى أن يؤدي بافاروتي دوراً أكثر بروزاً في أوبرا البوهيمية.

كانت الأوبرا تقدم في كوفنت غاردن – لندن، العام 1963، ولظروف اسثنائية توقف المغني الأساسي دي ستيفانو عن تقديم العروض، ليحل مكانه بافاروتي، وعبر جهوده المتواصلة، وصل بافاروتي إلى "مكان يسمح له بالتحكم بالفرص"، على حد تعبيره.

الأداء الغنائي الأوبرالي
شهادات من مغنين وموسيقيين يدلون بآراءهم حول فن بافاروتي في الفيلم، من أبرزهم المغني الإسباني بلاسيدو دومينغو وهو يقول: "تعرفت على صوت بافاروتي للمرة الأولى في العام 1966، منذ ذلك الحين كان في نظري من أنقى الأصوات التي تؤدي الأوبرا". أما الناقدة كارول فانيس، فتشرح خصوصية الطبقة الصوتية التي يمتلكها بافاروتي: "طبقة الصوت الباريتون، طبيعية، لذلك فإنها متوافرة بكثرة لدى المغنين، أما نوعية صوت التينور الذي يقدمه بافاروتي فهي مصنوعة، أي تتطلب التدريب والجهد، وهذا ما يجعلها أكثر ندرة". مقولة كهذه، من متخصصة في مجال الغناء، تبين مقدار الجهود والتدريب الذي ثابر عليه بافاروتي للوصول إلى الطبقات المميزة لأدائه، بينما يقول بافاروتي: "لطالما كنت متشككاً في بلوغ النوتة الصحيحة المطلوبة في الأداء".

يدلي بلاسيدو دومينغو برأي متميز حيال علاقة المغني مع الصوت: "الصوت هو كلمة مؤنثة في اللغات الإيطالية الإسبانية والفرنسية، la voix، وهذا يعني بالنسبة إليّ أن يعامل المغني موهبته الصوتية وكأنه يتعامل مع أنثى موجودة بداخله، عليه رعايتها، عليه الإنتباه إلى العلاقة النفسية بينه وبينها، إن الصوت أشبه بسيدة موجودة بداخل كل منا علينا التواصل معها بعناية.

الأداء المسرحي في الأوبرا
لكن مهنة مؤدي الأوبرا لا تعتمد فقط على الغناء، بل هناك الأداء المسرحي، الأداء التمثيلي. إن مغني الأوبرا هو مغنٍّ وممثل في الآن عينه. كانت ابنة بافاروتي حين ترى أبيها يتنكر بأزياء الشخصيات، ويخرج للعمل ليلاً، تعتقد أن والدها سارق أو محتال: "كان يخرج إلى عمله ليلاً بأقنعة على وجهه، يحمل حقيبة وأغراضاً سرية بداخلها". هذا كان أول موضوع تعبير كتبته ابنة بافاروتي في المدرسة، كما يبين الفيلم.


من أبرز الأوبرات التي قدمها بافاروتي في تلك الفترة أوبرا "ابنة محارب الفوج" من تأليف غاتيانو دونيزتي (1840)، وأوبرا "لا توسكا" من تأليف جياكومو بوتشيني (1900)، والأوبرا الكوميدية "إكسير الحب" من تأليف جاتيانو دونيزيتي (1932) والتي أدى فيها بافاروتي دور فلاح بسيط يعتبره من أكثر الشخصيات المسرحية قرباً لشخصيته وذلك لبساطة هذه الشخصية، وطبيعتها المرحة والشعبية.

إضحك أيها المهرج، من حبك المنكسر
إضحك بشأن الألم، الذي يسمم قلبك.

بهذه الأبيات من أوبرا "ريغوليتو"، من تأليف جوسيبي فيردي، يشبه بافاروتي مهنة الممثل الأوبرالي بمهنة المهرج، يقول: "ما من مراوغات في هذه المهنة، مهما كان حزنك كبيراً، فليس ذلك بعذر، عليك أن تتبرج بالضحك حتى وأنت متألم".


الحفلات الفردية
حتى ذلك الوقت، لم يكن بافاروتي قد غنى إلا في عروض أوبرالية. هربرت بريسلن، وهو من سيصبح وكيل أعماله الفنية، كان أول من اقترح عليه أن يقدم حفلات من صوت مفرد بمرافقة آلة البيانو، وكانت هذه المرة الأولى التي يقدم فيها صوت من نوع التينور حفلة غناء فردي. اختار بافاروتي مجموعة من أغاني الأوبرا التي تقدم كآريا، بغناء فردي، وتمكن من التنقل في العديد من الأماكن بمرافة آلة البيانو فقط. توجه إلى الولايات المتحدة، وراح يقدم الحفلة تلو الأخرى في الريف الأميركي النائي عن مركز العاصمة، حيث صالات الأوبرات التقليدية، وكانت رغبته في نشر الأوبرا بين أكبر عدد ممكن من المستمعين، وفي أبعد الأماكن من المركز.


في العام 1968، ومن قاعة الميتروبوليتان الشهيرة في نيويورك، كان أول بث حي لأوبرا عبر التلفزيون مباشرةً. سابقاً، كانت الأوبرات تسجل وتبث على التلفزيون لاحقاً، لكن هذه التجربة كانت بأداء الأوبرا على الهواء مباشرة، وأديت في حينها أوبرا "البوهيمية".

نصائح المعلم 
خلال إقامته في الولايات المتحدة، سعى بافاروتي لتدريب العديد من المغنيين، وقدم دروساً في معهد جوليارد ذي التاريخ الموسيقي العريق. يظهر الفيلم لقطات من هذه الدروس التي قدمها لطلاب معهد جوليارد، وعبرها نتعرف على أسلوب بافاروتي التدريسي: "أولاً الكلمات، ثم النوتات. معنى الكلمات هو الأهم، المشاعر التي يجب مشاركتها مع الجمهور"، مع تقنيات التنفس وإخراج الصوت. يطلب بافاروتي من مغني الأوبرا فهم الكلمات التي يلقيها، وذلك لإيصالها بالطريقة الغنائية الأمثل.


أبرز وأهم الحفلات
كان بافاروتي أول من قدم أداءاً أوبرالياً في الصين، قاعة الشعب العظيمة العام 1986، ودرب هناك العديد من المغنين الذين كانوا متعطشين للقاء مغني اوبرا إيطالي من قامته. ومن أشهر الحفلات التي قدمها بافاروتي، هي المعروفة بإسم "ثلاثي التينور" (1990)، وهي تجمع الثلاثة الأشهر بين مغني التينور خلال السنوات الخمسين الماضية، وهم لوسيانو بافاروتي، خوسيه كاريراس، وبلاسيدو دومينغو، وقد صدرت في ألبوم موسيقي سجل مباشرة من الأداء الحي في الحفلة، ويعتبر أكثر الألبومات مبيعاً من إنتاج شركة Decca.


حين تعرضت لندن إلى عاصفة أدت إلى خسارة المدينة العديد من الأشجار، أقام بافاروتي في أشهر حدائق لندن، هايد بارك، حفلة لتشجيع زراعة الأشجار مجدداً. ليلة الحفلة كانت ماطرة بشدة، واستخدم الجميع المظلات لحضور الحفلة في الهواء الطلق، وحضرت الأميرة ديانا أيضاً. وحين تبرّم الحضور من أن المظلات تحجب رؤية بافاروتي، أنزل الجميع مظلاتهم، ليتابعوا الحفلة من دون مظلات تحت المطر العاصف.
 


منذ هذه الحفلة بدأت صداقة بافاروتي مع الأميرة ديانا. ومن بعدها، انطلق في مجموعة من الحفلات الخيرية منها: العيد الـ125 لمنظمة الصليب الأحمر، وحفلة لصالح عمليات زراعة المخ للمرضى من الأطفال، والتقى نيلسون  مانديلا، وأنشأ معهداً لتعليم الموسيقى لأطفال البوسنة، وأسس جمعية بافاروتي الخيرية التي ما تزال ناشطة حتى الآن.

في سلسلة الحفلات الشهيرة بإسم "بافاروتي وأصدقائه" تعاون بافاروتي مع العديد من مغني الأنواع الموسيقية الأخرى من أشهرهم: ستينغ، برايان آدامز، بونو، وإيريك كلابتون، ستيفي وندر، سيلين ديون، والسبايس غيرل. امتدت سلسلة الحفلات هذه من 1992 إلى 2003 بعشر حفلات، أقامها بافاروتي في مدينته الأم مودينا (إيطاليا)، وجميعها خصص للأعمال الخيرية، منها لأطفال البوسنة، لأطفال ليبيريا، لمناطق النكبات الحروب مثل غواتيمالا، كوسوفو، كمبوديا، التيبت، أفغانستان، وأنغولا، والحفلة الأخيرة لمؤسسة SOS لرعاية الأطفال اليتامى في العراق.

توفي بافاروتي في العام 2007، عن عمر يناهز 71 عاماً، هو الذي كان يردد في أيامه الأخيرة قصيدة "نهاية الموت" لكابارادوسكي: "تبدد الزمان، وها أنا أموت يائساً، لكن لم يسبق لي من قبل، أن أحببت الحياة إلى هذا الحد".

(*) يعرض الفيلم في سينما ميتروبوليس أمبير صوفيل، ويستمر حتى 24 تموز/يوليو الجاري.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024