علي بدر.. كيف واجهت أوروبا استعمار الكوكا كولا

المدن - ثقافة

الأحد 2020/09/13
لم أكن سمعت بمصطلح الكوكا كولنياليزيشن أو "استعمار الكوكا كولا" قبل صدور الكتاب الرائع لمارك بندرغراست "من أجل الله والوطن والكوكا كولا"، وهو تاريخ شيق وموسوعي للكوكا كولا وثقافاتها الفرعية، وكاستعارة لنمو الرأسمالية الحديثة وأداة سياسية إبان الحرب الباردة، والكتاب مكتوب بمهارة بحثية وطريقة مذهلة في رواية القصص، ومن المثير حقا أن نرى أن خلف بهجة المشروب البني الفاتح هنالك الضجة السياسية وهذا التاريخ الترفيهي المفصل والمليء بالجدل. 

لكن قبل صدور هذا الكتاب قد صدر كتاب آخر بالألمانية للكاتب النمساوي رينهولد واغنليتر بعنوان استعمار الكوكا كولا والحرب الباردة، وهي دراسة هائلة حول هذا المشروب الذي أدخلته أميركا إلى النمسا مع بنطلون الجينز لفايز وأغاني الروك آند رول لتحطيم الأسطورة الشيوعية التي كادت أن تتمدد بعد انهيار النازية عقب نهاية الحرب العالمية الثانية مباشرة.

على العموم أن مصطلح استعمار الكوكا كولا  ظهر في العام 1949 على الأغلب على يد المثقفين الماركسيين الفرنسيين، وهي أشبه بالثورة المعارضة ضد هذا المشروب الذي اتخذه فارلي وهو عضو كونغرس كأداة للتمدد في أوروبا في مواجهة الشيوعية، ومع أنه حتى العام 1945 صعدت الأحزاب الشيوعية واليسار الأوروبي من نبرته ضد هذا المشروب فإن الدعم المالي واللوجستي جاء لهذا المشروب من بلدان عربية هي المملكة العربية السعودية والعراق ومصر، في العراق أسسه نعيم دنكور في العام 1950 بمعمل في بداية الشيخ عمر ولم يضع على معمله الشعار الشهير الذي رفعته الشركة "حينما نفكر بالسوفيت فإننا نفكر بالستار الحديدي وحينما نفكر بأميركا نفكر بالكوكا كولا". 

لم تكن مهمة الشركة سهلة في أوروبا ولكن نجاحها كان طاغيا في العالم الثالث حيث بدأ شراء الامتيازات وانشاء شركات التعبئة في كل من مصر والمغرب وبربادوس وليبيريا وروديسيا وغوادلوب والجزائر وجبل طارق وكينيا وتايلاند وتونس والهند والكونغو والعراق ولبنان وقبرص والمملكة العربية السعودية، وقال سياسيو هذه البلدان "إنهم مرتبطون بإيمان مشترك بشركة Coca-Cola وإيمانهما بأمانة المنتج وقيمته للبشرية". وقد خطب جيمس فارلي ذلك الوقت بهم خطبة عنصرية ساذجة بمفهوم هذه الأيام. قال إن العلم الأميركي نفسه هو أكثر العلامات التجارية روعةً، ويمثل أعظم موجة من المنتجات والخدمات في تاريخ البشرية، وكمثال على مساهمة أميركا في التقدم العالمي، استشهد فارلي بالفلبين، حيث كانت في البداية عبارة عن منازل من الخيزران والأعشاب، وسكان يرتدون ملابس رثة وأطفال عراة يتجولون في الشوارع الطينية. ووسط كل هذا الفقر، يقول فارلي ترى مصنع تعبئة كوكا كولا الجميل، "وسط هذا القذارة، هناك مصنع أبيض متلألئ جيد البناء بأرضيات نظيفة بدقة، وموظفين محليين، على الرغم من حياتهم المعتادة غير الصحية، يغمرون المصنع يومياً ويرتدون أزياء مغسولة حديثة".

في العام 1949 أظهر المثقفون الفرنسيون خشيتهم من "الأمركة" الوشيكة لثقافاتهم، وقاموا بمقاومة شرسة للرمز الأكثر ملاءمة وصراحة للثقافة الأميركية التي سموها "الصخب الأميركي"، واتهموا هذا المنتج بأنه يهدد بتغيير أنماط الاستهلاك ويصنع جيل الكوكا كولا الذي سيسير مغيباً تحت آثار ملصقات الدعاية المملوءة بالفتيات الجذابات وشكله المغري وسعره الرخيص. بل علق أحد الصحافيين قائلاً:  "هناك العديد من الأوروبيين الذين يعتقدون حقاً أن الشيء الذي يحمله تمثال الحرية هو زجاجة كوكاكولا".

وأرادت شركة كوكا كولا استخدام اللغة الفرنسية للترويج عن منتجها فكتبت عبارة  Buvez Coca-Cola" أي إشرب كوكا كولا ولكنها اسقطت ال التعريف فاشتكى المثقفون الفرنسيون من الشركة الأميركية التي عذبت لغتهم، لكن الشيوعيين ذلك الوقت هم أصحاب الصوت العالي فحينما تقدمت شركة كوكا كولا بطلب إلى السلطات للحصول على إذن لبناء مصنع في فرنسا، وكانوا هم يمثلون أكبر حزب في الجمعية الوطنية الفرنسية، ثاروا ضد "الإمبريالية الأميركية" ومخطط مارشال و"استعمار الكوكا كولا"، وفي كانون الاول /ديسمبر من عام 1949، بعد أن وزعت الشركة زجاجاتها في كونسيرت ليلي راقص، كثف الشيوعيون دعايتهم واتهموا المصنع بأنه شبكة تجسس ومؤامرات كبرى. وقد ظهرت الجمجمة والعظمتان المتقاطعتان طوال الليل على لافتات الكوكا كولا الباريسية. في الجمعية، ضغط الشيوعيون من دون جدوى من أجل مشروع قانون لحظر كوكا كولا واعتباره مادة سامة.

كان رجل كوكاكولا في المشهد هو الأمير ألكسندر ماكينسكي، وهو مهاجر روسي متعدد اللغات. وكان من المناهضين الأشداء للشيوعية، وقد تلقى تعليمه في فرنسا وعمل في مؤسسة روكفلر في باريس قبل أن ينضم إلى شركة كوكاكولا في عام 1945. وهو المخول بالتشاور مع المسؤولين الفرنسين الذين اخبروه بأن المختبرات الفرنسية، بعضها مملوكة لأفراد شيوعيين او من خلفيات يسارية، أثارت الغضب بشأن حامض الفوسفوريك والكافيين، بل لم يكتفوا بذلك إنما بثوا دعاية وجود المخدرات في المشروب، وكان الشيوعيون للمرة الأولى مدعومين من قبل البرجوازيين أصحاب شركات النبيذ والبيرة والشمبانيا في البلاد فاقتربوا من اصدار قانون يحظر بيع الكوكا كولا في البلاد. لكن الحكومة الفرنسية كانت قلقة وخائفة من الاميركيين الذين انبروا على اعلى المستويات في الدفاع عن الكوكا كولا الذي لم يعد مشروعا اقتصاديا انما تحول الى مشروع ثقافي وسياسي، شبان وفتيات وسيمون ومبتسمون يرتدون الجينز وهم يحملون زجاجات الكوكا كولا ويرقصون، هذه هي الجنة الأميركية. فأبدت الحكومة الائتلافية المعتدلة، بقيادة رئيس الوزراء جورج بيدولت، قلقها وكانت حريصة على عدم الإساءة إلى الأميركيين، الذين قد يقطعون حنفية المال من مشروع مارشال في أية لحظة. 

وحينما جاء عمدة أتلانتا ويليام ب. هارتسفيلد للقيام بجولة أوروبية لتسهيل توزيع الكوكا كولا، وكان عجوزاً نحيفاً جداً ويرتدي نظارة طبية سميكة، وضعت احدى الصحف صورته وكتبت تحتها "مثال حي بما يحدث للشخص الذي  يشرب الكوكا كولا طوال حياته".
 
لكن الاميركيين سخروا من الفرنسيين أيضا بعد أن هددوا بمقاطعة النبيذ الفرنسي والشمبانيا والعطور، بأنه من السخف التظاهر بأن كوكاكولا تشكل خطراً على الصحة، لأن ”الأطباء يصفونها للأطفال الرضع". إلى جانب ذلك، قال بريستون، إن الفرنسيين متوترون للغاية ومن الأفضل لهم شرب الكولا لأنه يمنحهم "تجشؤاً جيداً" هم في أمس الحاجة إليه. وصف جيمس فارلي التشريع الفرنسي بأنه "أغرب ما واجهته من خدع سياسية على الإطلاق"، مشيراً إلى أن "كوكا كولا لم تكن ضارة بصحة الجنود الأميركيين الذين حرروا فرنسا من النازيين".

قفزت الصحافة الفرنسية إلى الدفاع. شجبت لوموند "الأخطار التي تمثلها شركة كوكاكولا على صحة وحضارة فرنسا"، وقارنت إعلان الشركة بالدعاية النازية - وكلاهما "يسكر" الجماهير. وخلصت الورقة إلى أن "المشهد الأخلاقي لفرنسا على المحك". تنبأ المثقف الفرنسي ريموند آرون بتدمير ثقافته، حيث "يستبدل كوكا كولا بأرقى منتج في التربة (أعني، بالطبع، النبيذ)". بعض الفرنسيين المعادين لأميركا قالوا إن: "اليانكي، أكثر غطرسة من النازيين"، قال رجل فرنسي في حديقة الحيوانات، وهو يشاهد نمراً مصاباً بالإسهال، لابنه، هذا ما يفعله شرب الكوكا كولا بالحيوانات فما هو صانع بالبشر. 
انقلبت الحرب السياسية في شوارع باريس على استعمار الكوكا كولا إلى حرب غوغائية قامت بعض الجماعات بتدمير شاحنات الكوكا كولا، كُسرت القناني وتدفق التيار البني في المزاريب. في سباق دراجات فرنسية برعاية شركة كوكا كولا، احتج المتفرجون الغاضبون وألقوا بالحطام على المسار. وصل مستوى الهستيريا إلى ذروته لدرجة أن زوجة ألكسندر ماكينسكي كانت تخشى أن الشيوعيين قد يقصفون منزلهم. قال ماكينسكي أن "أفضل مقياس للعلاقة بين الولايات المتحدة وأي بلد هو الطريقة التي يتم بها التعامل مع كوكاكولا". 
قال احد الأطباء الشيوعيين أن كوكا كولا ستسمم الرجال والنساء والأطفال الفرنسيين الأبرياء بتركيبتها الغامضة، بينما قال ماكينسكي ان مشروب الكوكا كولا سيحرر الشباب من السلطة الأبوية. ومع ذلك، فإن مخاوف الفرنسيين من سيطرة شركة كوكا كولا على بلادهم أثبتت، على الأقل في المدى القصير، أنها غير صحيحة. لعقود من الزمان، كان استهلاك الفرنسيين قليلاً جداً فلا احد يمكنه ان يفطم الفرنسيين عن النبيذ والشمبانيا. مع ذلك لم تكن عبارة استعمار الكوكا كولا مقتصرة على الفرنسيين انما انتشرت في أوروبا المجاورة. أكد الشيوعيون الايطاليون أن كوكا كولا تجعل الشعر أبيض اللون وتتسبب في مرض الرهبة، والتهاب القولون. بل إن الدعاية وصلت إلى ألمانيا وكتبت إحدى الصحف أنه تحت مصنع الكوكا كولا هنالك مختبر لصناعة القنبلة الذرية، أما في بلجيكا فقد كانت الدعاية طاغية بأن الكوكا كولا تؤدي الى الاسهال الضار، وقام الأناركيون بتشويه لافتات كوكا كولا بالمطرقة والمنجل. حتى البريطانيين أصبحوا قلقين عندما أكدت عضو في حزب العمال في مجلس العموم، أن على مواطنيها ألا يضيعوا المال على المشروب الأميركي. في سويسرا، شن رجال الشركة معركة مريرة ضد التشريعات الصحية التي كانت ستحظر المشروب بسبب حمض الفوسفوريك. 

أما أغرب ما حدث فهو صدور كتاب في ألمانيا اعتبر رجال شركة كوكاكولا "العقل المدبر للتآمر". وهو كتيب تشهيري بعنوان ”كوكا كولا، كارل ماركس، وحماقة الجماهير"، يؤكد الكاتب في هذا الكتاب أن الكوكاكولا، وليس الدين، هو أفيون الشعب.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي علي بدر في صفحته الفايسبوكية
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024