كَنسُ النظام اللبناني

روجيه عوطة

الإثنين 2020/09/07
في كلمته التي افتتح بها الحزء الثاني من مهرجان "ربيع بيروت"، قال وجدي معوض أمراً دقيقاً للغاية حول زعماء النظام في لبنان، وهو حين وصفهم بالـ"زبالة". هذا ما يحيل الى فعل شاع في إثر 17 أكتوبر، وبعدها، في إثر 7 آب، وهي "الكَنس". ففي يوم من أيام ذلك الحدث الثوري، راح خائضوه ينظمون يوميات عيشهم في الشارع، بحيث أنهم، وبعد التظاهر في ارجائه، يعمدون إلى "كنسها". ولهذا، غالباً ما كان يقال انهم "حضاريون"، لكن فعلياً، "كنسهم" ذاك لم يرتبط بـ"التحضر"، إنما بما يمكن تسميته بـ"الإدارة الذاتية"، التي لطالما استندوا إليها في حياتهم اليومية. هذه الإدارة الذاتية، عادت وظهرت من جديد، وبطريقة جلية، بعد تلك المجزرة، اي مجزرة المرفأ. إذ عاد هؤلاء وأقدموا على "كنس" حطام منازلهم ومحلاتهم، وهذا، بالتوازي مع توديع ضحاياهم والبحث عن مفقوديهم.

لقد بدا "الكنس" فعلاً يدل على كونهم يديرون عيشهم من تلقائهم، إذ انهم، وبهذا الفعل، مرة يستوطنون الشارع، بما هو مكان حدثهم الثوري، ومرة يأخذون على عواتقهم ترميم عيشهم. وفي المرتين، يقدمون على كسح النظام عنهم، وفي المرتين، يؤكدون ان هذا النظام، وبزعمائه على قول معوض، كناية عن زبالة.

فعلياً، من الممكن القول أن شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" لا يناسب الوضع في لبنان، بل ان استبداله بـ"الشعب يريد كنس النظام" أكثر ملاءمة للوضع هذا. وهذا، لسبب محدد، وهو أن النظام، ولأنه زبالة، ليس فوق، وبالتالي، لا بد من إسقاطه. على العكس، هو تحت، منتشر، متناثر، مرمي، بين محكوميه، يقترب منهم، يلتصق بهم، يمسكهم، لا يتيح لهم أن ينصرفوا من مطارحهم في معتقله. إنه زبالة تحيطهم من كل حدب وصوب، تماماً، كما في العام 2015، يوم ظهر بوجهه، أي بالنفايات في الطرق، قبل أن يعود ويلبس قناعه. "الواقع زبالة"، كُتب آنذاك على جدار من جدران بيروت، لكن هذا "الواقع" لم يكن سوى النظام نفسه، وبعد خمس سنوات، رُفعت المكانس في مواجهته. لكنه زبالة قوية، إذا صح التعبير، وقوته لا تنم عن كونه موضوعاً لإعادة التدوير فحسب، انما، وقبل ذلك، عن كونه مترسباً، متحللاً، بمعنى أنه كالقمامة، التي تتفسخ، تتعفن، يختفي بعضها، ويبقى بعضها. لكن هذا كله، لا يؤدي سوى إلى تركيزها. قوة النظام إنه، وكلما صار زبالة، اشتغل أكثر فأكثر، لا سيما أنه، وبفعل "تزبله"، سيحمل إلى ذلك الاعتقاد، الذي انتقل من لغو اليسار قبل أن يستقر في لغو الطبقة الوسطى بنسختها المحلية، أي الكاريكاتورية، بأنه "لا نظام في البلد".

ولكن، أن يكون النظام زبالة، فهذا يؤدي إلى كون أي إشارة اليه، لا ترتبط بذلك الاعتقاد، قد تشكله، أي قد تعطيه شكلاً هو، في الأساس، ليس عليه. هكذا، وحين ينقلب الاعتقاد نفسه إلى نقيضه، من خلال نقد ذلك النظام، يبدو أنه يحمّله أكثر مما يحمل، لا سيما بالاستعانة بعدة ذهنية هي في الأصل مصنوعة لتفسير وفهم أنظمة ليست زبالة. فثمة فخ في النظام-الزبالة، وهو أن يصير نقده بمثابة سبيله لأخذه هيئة، هو أساساً ليس عليها، كما أنه أساساً يحلم بها.

فيعيش النظام في التفكير النقدي الذي يقاومه، حتى يصير هذا التفكير فرصة له لكي لا يبقى زبالة، وخلال ذلك، "يزبله"، يقلبه إلى زبالة على نحوه. هذا أيضاً من قوته، بحيث أنه، ومن شدة كونه زبالة، يقلب كل شيء إلى شبيهه.

لا أتذكر من قال ان لبنان بالوعة تبتلع كل شيء، إذ أن نظامه يجعل كل شيء من زبالته، من القضايا النبيلة إلى الأفكار الرائعة، كل شيء "يتزبل" فيه. وبذلك، هو راهن للغاية، وربما، بالكثير من المبالغة، يصح القول أنه كوني، فالرأسمالية أيضاً تقوم بـ"التزبيل" نفسه، بالابتلاع نفسه. ولهذا بالتحديد، الخروج من ذلك النظام، من "اللبننة"، هو خروج من نسق شائع، من خطاب طاغٍ في العالم. قد يكون لكل من غادر هذا النظام-الزبالة دور بعينه، وهو، وبالإفراط في المبالغة هذه المرة، المشاركة في صناعة العيش من بعده، أو التبشير بهذا العيش حتى. معنى مختلف لـ"اللبنانية"، بما هي سيرورة، أو بما هي موقع يتطابق مع الموقع السوري، والفلسطيني، والفرنسي، والجزائري، والتشيلي، والأميركي... ليس موقع "يلي وين بتزته بيجي واقف"، إنما، وأينما كان في عالمنا، يفتش عن مخرج، يصنع مخرجاً من نظامه، من نسق "تزبيله". وهذا، بعدما "تزبلت" كل المشاريع السابقة، من مشروع يساري بلا يسار إلى مشروع ميدلكلاسي هو مجرد عنوان للمعدومية، وبينهما مشروع يميني تافه.

فورشة الكنس ضخمة، وبتصرف بعبارة شهيرة لبول كلي، شعب الكناسين ناقص، لكن، يوماً ما، سيأتون. وعندها، قد يكونون مثل ميشال سيمونيه، ذلك الزبّال السويسري، الذي، وفي حين كان يكنس شارعاً من شوارع زيوريخ، كتب قصيدة نشرها في كتابه "مكنسة وزهرة" (2015، faim de siècle)، يقول فيها: "وأذهب الى مكنستي/إزاء الرياح السيئة أحملها/من هنا، من هناك/مكدساً الورق الميت".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024