خريستو المرّ يسائل اللاهوت بالعلم والشعر

أسعد قطّان

الأحد 2021/07/11
في النصوص التي يضعها خريستو المرّ بين أيدينا عبر كتابه الجديد «مع المسيح في جحيم هذا العالم: نصوص في محوريّة الإنسان» خصائص ثلاث لا بدّ من التوقّف عندها.

أوّلاً، تنتمي هذه النصوص، من حيث موقعها الفكريّ، إلى ما ندعوه في العادة في اللاهوت المسيحيّ «اللاهوت السياقيّ» (Contextual Theology). بالطبع، ليس ثمّة فكر دينيّ خارج السياق. فكلّ فكر دينيّ يتّصل بظروف تاريخيّة معيّنة ويحاول الإجابة عن أسئلة سابقة له. حتّى نصوص القرآن الكريم، التي يعتبرها المسلمون منزلةً، هي أيضًا مرتبطة بالسياق التاريخيّ. ويدلّ على ذلك وجود ما يُعرف بـِ «علم أسباب النزول»، وهو علم قائم في ذاته يبحث في ارتباط الآيات بالسياق التاريخيّ الذي «دعا» إلى نزولها، إذا جاز التعبير. وتالياً، الفكر الدينيّ، والأدب الدينيّ بعامّة، يحيلان دوماً إلى سياق تاريخيّ. ولكن في القرن العشرين نشأ تيّار في اللاهوت المسيحيّ شدّد على سياقيّة الفكر الدينيّ وأعاد تثمين العلاقة الوثيقة بين الخطاب الدينيّ والسياق. ومن ثمّ، فإنّ هذا اللاهوت يدعو إلى أخذ السياق المجتمعيّ والسياسيّ على محمل الجدّ واستلهامه وربطه بالنصوص الدينيّة المرجعيّة، بحيث يمكننا الخلوص إلى ما يريده الله منّا في اللحظة الراهنة وفي المكان الذي نحن قائمون فيه. إنّ نصوص الكتاب الذي نحن في صدده قائمة في هذا الخطّ البيانيّ. وهي، من حيث منهجيّتها وهدفها، تتقاطع مع محاولات قامت في منطقتنا إبّان العقود الأخيرة لبلورة لاهوت في السياق الفلسطينيّ يستنطق الكتاب المقدّس ويتلمّس ما يمكن أن يقوله لنا حيال قضيّة الشعب الفلسطينيّ ومعاناته، أو لاهوت في سياق الحياة المشتركة مع المسلمين في العالم العربيّ عكف على تطويره مفكّرون لبنانيّون على وجه الخصوص. أمّا السؤال المركزيّ الذي يطرحه الكتاب الذي نحن في صدده، فيتّصل بالرسالة التي تزوّدنا بها الكتب المقدّسة حيال المستضعفين في الأرض، ولا سيّما الفقراء والمهمّشين والمظلومين والمقهورين، وكيفيّة صيرورة هؤلاء منطلقاً للتفكير اللاهوتيّ، وماهيّة المقاربة التفسيريّة التي يجب اعتمادها كي يصبح الفكر الدينيّ معنيّاً بهم مباشرةً ومنتبهاً إلى قضاياهم. لذا، فإنّ مسألتي الفقر والمظلوميّة تضطلعان بدور محوريّ في نصوص الكتاب.


ثانياً، تمتاز هذه النصوص بقدرة كاتبها على الاستفادة الكثيفة من العلوم الإنسانيّة. ليس من البديهيّ أن يعبّ الفكر الدينيّ من العلوم الإنسانيّة. فهذا الفكر، ويا للأسف، ما زال يبدي في كثير من تشكّلاته حذراً حيال هذه العلوم، ولا سيّما الفلسفة والتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس، معتبراً ذاته، على نحو معلن أو مبطن، خصماً لها. خريستو المرّ يستلهم في كتابه العلوم الإنسانيّة ويستعيد كثيراً من معطياتها ونتائجها في بناء مقاربته. ولكنّه لا يتوقّف هنا. ولعلّ هذا هو الأهمّ. فالكاتب الدينيّ يستطيع أن «يستفيد» من العلوم الإنسانيّة فحسب، أي أن يلجأ إليها ويأخذ منها ما يحلو له أو ما يدعم صحّة آرائه، ولكن من دون أن يفضي هذا إلى مساءلة لمنطلقات الفكر الدينيّ التي تحتاج إلى مساءلة. في هذه الحال، يطلّ الكاتب الدينيّ على العلوم الإنسانيّة ويتصيّد منها ما يشاء، ولكنّه يبقى في برجه العاجيّ، إذا جاز القول. غير أنّ ما يقدّمه لنا خريستو المرّ في كتابه هذا ليس كذلك. فهو يستنجد بالإنتاج الفكريّ للعلوم الإنسانيّة، بما فيها الأنثروبولوجيا والعلوم الإحصائيّة، كي يقوم بمراجعة معمّقة لبعض مسلّمات الفكر الدينيّ ومنطلقاته. نحن، إذاً، لسنا أمام عمليّة «استفادة» بالمعنى الوضعيّ، بل أمام تفاعل حقيقيّ. فكاتب النصوص موضوع هذه المطالعة يغرف من المنتَج الثقافيّ الإنسانيّ، الذي يعتبر أنّه يختزن شيئاً من الحقيقة، ويعيد مساءلة الفكر الدينيّ باسم هذا المنتَج مطالباً بتطويره وعاملاً على تطويره.


ما أوّد الإشارة إليه، ثالثاً، هو الحسّ الشعريّ الذي يتّصف به هذا الكتاب. لا شكّ في أنّ بعضاً من نصوص خريستو المرّ المنشورة هنا تحمل نفحات شعريّةً لافتة. فالكاتب شاعر بالفطرة والتمرّس. وقد نشر، قبل ثلاث سنوات، ديواناً شعريّاً بعنوان «كلمات للضياع... حبيبة للمنفى». ولكنّ ما أودّ التشديد عليه هنا هو أنّ نصوص «مع المسيح في جحيم هذا العالم»، حتّى تلك التي لا تنطوي على نفحات شعريّة «مباشرة»، إذا جاز التعبير، تحمل، في رأيي، قلق الشاعر وتفصح عنه. ولعلّ هذا يشكّل بعضاً من فرادتها. إنّها نصوص تجمع بين الاهتمام اللاهوتيّ والغوص على العلوم الإنسانيّة وما أشار إليه أبو الطيّب المتنبّي، ذات يوم، حين وصف الشاعر الذي فيه بكلمات لا تشيخ: «على قلق كأنّ الريح تحتي». ما هو هذا القلق؟ أين يبدأ؟ كيف ينتهي؟ ما هي عناصره ومكوّناته؟ لعلّها أسئلة لن نتوصّل يوماً إلى استنباط أجوبة نهائيّة عنها. أكتفي هنا بالقول إنّه نوع من القلق الذي يرتبط بالبحث عن المعنى. فالشعر، في نهاية المطاف، بحث عن معنى الوجود الإنسانيّ وتلمّس له...

 

 

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024