عن الهوس في إشهار العقيدة في سوريا

بشار جابر

الأحد 2018/01/07
في الواقع الرسمي السوري كل شيء يبدو مألوفاً، لدولة إسلامية سُنية رصينة البنيان، رصانة قانونية ومذهبية فيها طغيان لشكل الدولة السُنية بلا أي ترددٍ أو ارتباك، ويبدو هذا استحواذاً مهيناً في كثير من الأوقات. والسلطةُ تُحاول إعلامياً الخروج عن هذه الرصانة السُنية مع المسيحيين فقط، فتحتفل بأعيادهم إشهارياً وإعلامياً، وتسمح لسلطاتها العنفية بحماية احتفالاتهم أما الطوائف الإسلامية الباقية فعليها أن تذوب في رحابة البُعد السُني الدمشقي، والإعلام لا يمتد ليحتفل أو يُشهر أي حالة اجتماعية احتفالية لغير الأعياد السُنية في البلاد.

أشهر المشايخ الرسميين الرعاة للنظام كالبوطي لا يتردد في كتابه "باطن الإثم" الذي ظهر في التسعينيات من لعن الباطنين وأصحاب الرؤى والعقائد الرياضية والفلسفية في معرفة الله. هذا الكتاب موجود في كل أنحاء البلاد. ورغم تواجد أكثر من ثلاث طوائف باطنية في سوريا فإن الكتاب لا يُمثل إشكالاً لأحد، فالوعي اليومي تشكل على أن تكون السلطة موازنة للانفعالات الطائفية والدينية. والنظام يراعي ثقافياً البوصلة السُنية الدمشقية في اختيار شكل الدين والعقيدة، وأن تترك هوامش الصراع في النفوس الخافية وفي العلاقات العصبوية الاجتماعية والتي لا تصعد إلى مستوى التعبير أو التأثر الحكومي.


 وقد تجد من يرد على الكتاب من مشاهير النخبة الفكرية، إلا أن كل هذا لا يثير لغطاً أو اعتراضاً، فالنفس الخافية لأبناء الطوائف تحمل صراعاتها وتمرداتها في داخلها. وفي الحالة الاجتماعية العامة لما بعد الثورة ظهر هذا جلياً، فالغطاء الذي رمته السلطة على الطوائف الإسلامية غير السُنية قد فُسخ، وإن ابتعد عنه النظام إشهارياً، إلا أن الواقع الهامشي الإعلامي، وسياقات التعبير عن الذات في الشوارع والسيارات وخطاب الأفراد قد ظهر بقسوة لا بل تحول إلى حالة هوسية. فمع صعود الحالة الإسلامية المُسلحة، تمرد العلويون سريعاً على الكبت الذي يفرضه النظام على ثقافتهم، وفقدت الباطنية الدينية لدى العلويين خفاءها، أفرادها احتاجوا العقيدة المُشهرة لدفع أفرادهم للمقاومة وحماية الذات بوصفها تتماهى مع النظام. فمنع النظام لأي مظهر ديني داخل المؤسسة العسكرية لم يعد يشمل العلويين، الذين وضعوا رموزاً علوية تقدس الصفات (الإعلائية) للإمام علي على سياراتهم، وثيابهم وحتى أجسادهم، وهذا تحدٍ ما للسلطة أولاً، وللمجتمع السُني الذي تحول لعدو احتمالي مفترض ثانياً. الصفات الإعلائية تصيب أفراد النظام الحاكم أيضاً، فمع موجة الأغنية الشعبية الريفية منذ عام 2002، لم يتردد مطربون شعبيون في جعل بشار الأسد شخصية مُبشر بها، أحد الأغاني تقول: "الإمام علي بالأسد بشر" والكثير من المواويل الشعبية التي درجت على جعل العائلة الحاكمة بصفات مقدسة سرية. وهناك تقليد خاص في الأعراس العلوية بتحية المطرب للإمام علي، وحافظ الأسد وبشار الابن، وبالتأكيد حسن نصر الله ونبيه بري. كنوع من التوكيد على وجود اجتماعي قوي للمجتمع العلوي ورؤيته التي تدعم السلطة وتقدس تحالفاتها. هنا نتحدث عما قبل الثورة حيث كان هذا اشهاراً اجتماعياً مؤكداً لقيمة القوة المختزنة المكبوتة التي تستعد لإشهار ذاتها بوصفها ديناً وعقيدة في مواجهة حجاب السلطة السُني.  أما بعد الثورة خضع هذا الكبت لما يُسمى في علم النفس (الإبدال الضدي) فالتوازن النفسي جعل وجهة البوصلة تنتقل من الكبت والسكوت إلى الهوس في الإشهار والانفعال، وهذا التغير المرضي أصبح واجباً لمحاولة الاتزان في وجه الثورة. وعصر الميديا طرح جنوناً في تصوير أبطال عسكريين لدعم الحالة الجديدة للعلويين في التعبير عن ذواتهم باستخدام شخصيات مقربة من السلطة لتوكيد التماهي بين العائلة ومجتمعها العلوي . 

فتصوير علي خزام – من قادة الحرس الجمهوري-  مثلاً في احتفال وهو يُشيد بقيم إعلائية للإمام علي، ويخطب بالجمهور من منطلق ديني سياسي. وسريعاً ما تقوم الجماهير العلوية بمشاركة هذا الفيديو وتعظيمه، هذا انتقام قوي من السلطة، وإشهار هوياتي في وجه الطائفة السنُية، التي يُحرم على أفرادها مثلاً الصلاة أو التحدث في الدين داخل الثكنات العسكرية أو حتى خارجها. وهناك الآلاف على مدار حكم حزب البعث ممن حولوا لمحاكم أمنية بسبب ممارستهم لطقس ديني داخل المؤسسة العسكرية. هذا المتاح الإشهاري العلوي تزايد بعد السنة الأولى من الثورة السورية، حيث لم تتردد سيارات القوى الأمنية من وضع الشعارات والأغاني ذات المُراد العلوي والتشيعي والسير في قلب الشوارع السُنية. ولم تخلُ المعتقلات الأمنية من انتقام كبتي من رجال الأمن العلويين بتحقير رموز السُنة قصداً، ويُشير الكثيرون من سُكان الداخل السوري بأنهم لم يعرفوا عقائد وتفكير العلويين إلا من المعتقلات ومن الفيديوهات المُسربة التي تظهر بها شخصيات علوية أمنية/ عسكرية تتحدث بلهجة عقائدية عنفية.  وما تسرب كان كفيلاً بجعل أهل السُنة يشعرون بالغرابة من الطريقة التي يُعبر فيها العلويون عن تدينهم وسلوكهم.

وبعض رموز السلطة كعلي خزام وغيره من الجنود أثاروا لدى متديني المجتمع السوري حيرة واسعة الطيف، فمنهم من تعصب ضد العلويين بوصفهم غرباء عن الإسلام وتقاليده متوازياً مع أراء جميع الحركات الإسلامية المقاتلة، ومنهم من استكان إلى مبدأ حرية التدين وهم الفئة الغالبة في المجتمع.

التوازن النفسي للعلويين جعلهم يتمسكون بهوسية بإظهار أنفسهم للمجتمع، وأجبروا السلطة / الدولة على خلع العباءة التوافقية المتجردة عن الطوائف. تبدو الدولة في سلطاتها العنفية شديدة التدين علوياً، وفي الهامش الاجتماعي لم يعد العلويين يظهرون أنفسهم في جلساتهم الخاصة، وصارت قيمهم وتقاليديهم الدينية تظهر جهارة في وجه النظام ووجه الجميع. من هنا يبدو الكبت الذي انفجر مروعاً للطائفة ذاتها قبل أي أحدٍ آخر، فإشهار العقائد تحت مظلة العنف يُولد عنفاً مضاعفاً هذا أولاً، وثانياً من الخطأ أن يكون تاريخ طائفة تمتد من القرن العاشر متهوراً به ومسطحاً على أيدي حفنة من المقاتلين والمطربين لا المفكرين والعلماء ورجال السلام. هذا ظلم النظام لطائفة وليس ظلمها لنفسها.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024