علي بدر... موعد مع داريوش شايغان في مقهى باريسي

المدن - ثقافة

السبت 2020/06/27
كنت قرأت بعضاً من كتب المفكر الإيراني المقيم في باريس، داريوش شايغان، باللغة العربية. وكان ذلك في فترة التسعينيات أيام كنت في بغداد، وأتذكر أني اشتريتها مستنسخة من أحد الباعة في سوق السراي. ولكن لم تكن لدي أية معرفة عن حياة هذا الرجل أو حتى أية معلومات بسيطة فيما إذا كان على القيد الحياة أم لا، كم عمره، مثلا، أين يعيش؟ بل كنت أجهل كل شيء عنه. فالكتب العربية المترجمة في العادة لا توفر معلومات أساسية عن الكاتب، على الرغم من أهميتها.

وفي يوم باريسي شارف على الانتهاء، وكنت في ذلك الوقت في ضيافة مدرسة الألنكو من المعاهد الأكاديمية المهمة لتدريس اللغات والآداب الشرقية في أوروبا، التقيت بشاب وشابة إيرانيين يحضران للدكتوراة هناك، وكانا مثقفين بشكل استثنائي. الأول كان قد درس في جامعة جنيف وحصل على منحة في باريس، والفتاة مولودة أصلاً في نيويورك، وأنهت دراستها الأولية هناك وجاءت إلى باريس لتتخصص بالدراسات الإيرانية. وقادنا الحديث صدفة عن داريوش شايغان المشرف على أطروحة الطالبة، من هنا جاءتني فكرة اللقاء به.

كنت استعدت بعض المعلومات الأساسية عنه قبل أن أتوجه إلى اللقاء به في مقهى فلور في شارع السان جرمان دوبريه. وهو المقهى ذاته الذي كان يرتاده جان بول سارتر وسيمون دو بوفوار، والشعراء السرياليون في ما بعد، أي بعد أن غادروا مقهى نيم على نهر السين في الحي اللاتيني. ذلك أني بعد أن خرجت من مدرسة الألنكو للدراسات الشرقية، في الليلة الفائتة، كنت ذهبت مباشرة إلى مكتبة كبيرة قرب جامعة السوربون، واشتريت بعضاً من كتبه، وذهبت إلى مطعم صغير في شارع مفتار، اعتدت أن أتناول غدائي فيه كلما ذهبت إلى باريس، واتخذت زاوية هناك، وانغمست في قراءة هادئة حتى منتصف الليل، حتى أعلن المطعم إغلاق أبوابه.

في اليوم التالي كنت ذهبت إلى المقهى مبكراً عشر دقائق، كان الشابان الإيرانيان في انتظاري، بينما لم يصل داريوش شايغان بعد، وبعد عشرة دقائق دخل المقهى، أي في موعده بالضبط.

كان يرتدي ملابس سوداء أشبه بمسوح الرهبان، ويلف عنقه بلفاف حرير أبيض، يتناغم مع شعره ولحيته البيضاء الناصعة مثل القطن. كان شخصاً متوسط الطول بسمنة معتدلة، هادئاً بشكل حذر. استمع في البداية أكثر مما تكلم، وسألني أسئلة متعددة قبل أن يبدأ بحديثه المتناغم والممتع معي. كانت مفاجئتي كبيرة ذلك اليوم ذلك أني عرفت أن داريوش شايغان الموله بالغرب، بل المناصر حتى لتياراته العدمية، مفتون أيضاً بالتجربة الروحية للفكر العرفاني الايراني عبر مؤلفات السهروردي، ومؤلفات جلال الدين الرومي، وغزليات حافظ الشيرازي.

وحين سألته كيف توصل إلى العرفان الإسلامي في حياته، قال لي إنه توصل إليه من خلال الثقافة الشعبية الفارسية، ولكن ما جعله يفكر به في إطار فكري وأكاديمي هو طريق تأويلات الفكر الهندي، هذا الفكر الذي رعا عبر هندسته الميتافيزيقية الكبرى، أكبر منظومة عرفانية في التاريخ. لقد رسم داريوش شايغان، ذلك اليوم، لي، لوحة مؤثرة لنتاج هؤلاء العرفانيين الفلسفية، وتجليات الفن الفارسي القديم ومنمنماته. محللا بأسلوب رقيق ولغة شديدة الصفاء والشفافية، أسس هذه العرفان وقدرته التنويرية وإطلالته على العالم الداخلي للفرد وللجماعة معاً.

لم يحظ الفكر العرفاني في الثقافة العربية الاهتمام ذاته، بل رسم المثقفون العرب صورة مظلمة عنه، صورة سوداوية، سواء عبر الأيديولوجيا العلمانية أو عبر أيديولوجيا الإسلام السياسي، وقصروا في الاقتراب من مكنوناته الباهرة. بينما وجدت ذلك اليوم أن شايغان الذي يعيش في مدار أستاذه هنري كوربان وتأويلاته الباطنية أكثر ثراء واشعاعا وجاذبية.

فالخطأ الذي توصلنا إليه في قراءاتنا السابقة لفكر شايغان، أنه مفكر علماني إيراني يعيش في باريس ويرفض التجربة الدينية بالمطلق. بل كنت أظن في ما مضى أن شايغان يجعل من التجربة الروحية عاملاً مأسوياً ومنبوذاً في الإطار الشخصي الفردي وفي الاجتماعي العام. لكن الحقيقة كانت غير ذلك تماماً، لقد أدركت ذلك اليوم أن هنالك تجربة تنوير قد حدثت في حياة شايغان، هذه التجربة توصل إليها عبر حيز من التجربة الشخصية الشعورية، وهذا الحيز هو حيز شعري وفني وجمالي، ويتخذ بعض الأحيان طابعاً سياسياً.

من الواضح، بل من المؤكد أن شايغان يرفض استثمار الدين في العملية السياسية، لأنه سيصلبها عند حدودها، ويصنع منها أداة لكل اشكال الفاشية المتعصبة والمهتاجة. لكن التجربة القائمة في الحيز الشخصي للمسلمين يمكنها أن تكون عامل ثراء للعالم كله، لا للفكر البشري فقط إنما للحياة العامة في كل مكان. فهو يعتقد ان هذه التجربة العرفانية في الإسلام تشكل بالنسبة للآخر، أي الغرب، باطنيته، وهذه الفكرة أخذها دون شك من المفكر الفرنسي هنري كوربان، لكن شايغان أزاد عليها، فهو يعتقد أن داخل الفضاء العرفاني الإسلامي يعثر الغرب على شرقه، وهذا هو التكامل الإنساني، بالمعنى العام للتجربتين الروحية والمادية. فالشرق لا يعيش وحده، لا يعيش على تجربة العرفان مبتورة عن الغرب، بل على الشرقي، أو المثقف المسلم أن يتوج رحلته الفكرية والوجدانية بالانغماس في روح الغرب، مثلما يأتي الغربي عبر الغوص العميق في المتون الإسلامية الاشراقية، ليعثر على شرقه.

لقد رحلت ذلك اليوم رحلة عظيمة مع فكر هذا الرجل العظيم، الذي يجعل من الشرق الديني باطن العالم، والغرب المادي ظاهره. وما زلت راحلاً مع هذه التجربة حتى اليوم. لم أنفصل عن هذه التجربة منذ التقيت هذا المفكر الذي شرب قهوته على مهل، ودخن سيجارته على مهل، وأدلى بأفكاره على مهل أيضاً.

(*) مدونة نشرها الروائي العراقي علي بدر في صفحته الفايسبوكية.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024