كنيسة المهد.. وقد نجَت

محمود الزيباوي

الإثنين 2019/07/08
استبعدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) مؤخراً، موقع مهد ولادة المسيح في بيت لحم، من لائحة التراث العالمي المعرض للخطر، وقالت إنها اتخذت هذا القرار بناء على "جودة الأعمال التي أُنجزت في كنيسة المهد، لا سيما أعمال ترميم السقف وأبواب وواجهات الكنيسة الخارجية ولوحات الفسيفساء الجدارية".


رحّبت السلطة الفلسطينية بهذا القرار، وقالت وزيرة السياحة والآثار، رلى معابعة، في هذه المناسبة إن "موقع مهد المسيح إرث إنساني مهم للبشرية وحمايته مسؤولية جماعية عالمية"، وأكدت أن لجنة التراث العالمي "أشادت بالجهود الفلسطينية وتعاون المؤسسات الدولية والمحلية مالياً وفنياً في ترميم كنيسة المهد بأفضل المواصفات الدولية وإزالة الخطر الذي كان يهددها". ورأت أن تسجيل الكنيسة ضمن لائحة التراث العالمي "يعدّ أداة مهمة للحفاظ على التراث الفلسطيني من السياسات التهويدية لسلطات الاحتلال وهو بمثابة اعتراف دولي صريح بفلسطينية هذه الأرض وهويتها الثقافية والدينية كممتلكات مهمة للبشرية جمعاء، الأمر الذي يضع حماية هذا التراث ضمن مسؤولية جمعية عالمية".

تذكر كتب التراث التي تعود للحقبة العباسية "قرية" بيت لحم التي وُلد عيسى مريم فيها، و"بها كنيسة ليس في الكورة مثلها". في "المسالك والممالك" نقل العزيزي عن "أهل الكتاب النصارى": "وُلد المسيح عليه السلام ببيت لحم على أربعة أميال من بيت المقدس في الحد القبلي منها. فبنوا على موضع مولده كنيسة ليس على وجه الأرض مثلها". وفي "خريدة العجائب وفريدة الغرائب"، كتب ابن الوردي: "وأما بيت لحم فهي كنيسة حسنة البناء متقنة الصنعة، وهو الموضع الذي وُلد فيه عيسى عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس ستة أميال".

في "البداية والنهاية"، عاد أبو الفداء إلى عهد الإمبراطور قسطنطين حيث "بُني بالشام وغيرها في المدائن والقرى أزيد من اثنتي عشر ألف كنيسة"، وقال إن الملك "اعتنى ببناء بيت لحم، يعني على مكان مولد المسيح"، وذلك بناء على رغبة والدته هيلانة. في الحقبة المملوكية، استعاد مجير الدين العليمي هذه الرواية في "الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل" حيث ذكر بيت لحم، وأضاف: "وهذه القرية غالب سكانها في عصرنا نصارى، وبها كنيسة محكمة البناء بها ثلاث محاريب مرتفعة أحدها موجه الى جهة القبلة الشريفة والثاني الى جهة الشرق والثالث الى جهة الصخرة الشريفة، وسقفها خشب مرتفع على خمسين عمودا من الصخر الأصفر الصلب، وأرضها مفروشة بالرخام، وعلى ظاهر سقفها رصاص في غاية الأحكام. وهذه الكنيسة من بناء هيلانة والدة قسطنطين، كما تقدم، وفيها مكان مولد عيسى عليه السلام، وهو في مغارة بين المحاريب الثلاثة، وللنصارى فيها اعتقاد، ويرد اليها من بلاد الافرنج وغيرها الأموال لها وللرهبان المقيمين بالدير المجاور للكنيسة".

بحسب شهادة كبار المؤرخين المسيحيين، بنى قسطنطين عدداً كبيراً من الكنائس، منها كنيسة القبر الأقدس، وكنيسة القديس بطرس، وكنيسة المدينة التي أنشأها وحملت اسمه، أي القسطنطينية. وكل هذه الكنائس قضى عليها الزمن وأعيد تشيدها بحيث لم يبق من أصلها شيء. وحدها كنيسة المهد في بيت لحم حافظت على أسسها وباتت الإثر الوحيد في ميدان البناء الكنائسي القسطنطيني. شرع أول إمبراطور مسيحي في بناء هذه الكنيسة في سنة 327 نزولاً عند رغبة والدته هيلانة، وذلك استجابة لطلب الأسقف ماكاريوس في المجمع المسكوني الأول الذي انعقد في نيقيه عام 325 للميلاد، ودشّنت هيلانة هذه الكنيسة الملكية في نهاية أيار/مايو 339. احرق السامريون اليهود المبنى حين انتفضوا على البيزنطيين في منتصف القرن السادس، فقام الإمبراطور يوستينيانوس بإصلاحها في عام 565، وعدّل بنيتها بشكل كبير. وقد نقل ابن خلدون هذا الخبر، وكتب في "ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر": "وفي أيام يشطينانش هذا ثار السامرة بأرض فلسطين وقتلوا النصارى وهدموا كنائسهم فبعث العساكر وأثخنوا فيهم وأمر ببناء الكنائس كما كانت، وكانت كنيسة بيت لحم صغيرة، فأمر بأن يوسّع فيها، فبُنيت كما هي لهذا العهد".

شهرباراز
في ربيع سنة 614، دخل فلسطين، القائد الفارسي شهرباراز، وعمد إلى إحراق الكنائس أينما سار، غير أنه حافظ على كنيسة المهد في بيت لحم، وذلك بعدما رأى فيها فسيفساء تمثل صورة الملوك المجوس القادمين من الشرق لرؤية المسيح الطفل في زيهم الفارسي التقليدي، كما تقول الرواية المتوارثة. بعده دخل المسلمون العرب فلسطين، وباتت بيت لحم في عهدتهم حتى مجيء الفرنجة أيام الحروب الصليبية. أسس الفرنجة أولاً كونتية الرها، ثم إمارة إنطاكيا، وبعدها مملكة القدس، وبعدها كونتية طرابلس، وغدت بيت لحم في مملكة القدس. وفي القرن الثاني عشر زيّن الصليبيون كنيسة المهد بالفسيفساء على الجدران وبالرسوم على الأعمدة وبالرخام على الأرضيات، وذلك بالتوافق مع الإمبراطور مانويل الأول كومنينوس الذي هادن الفرنجة لفترة وجيزة. استعاد صلاح الدين الأيوبي بيت لحم في 1187، غير ان الفرنجة عادوا وسيطروا عليها إلى أن نجح المماليك في سحقهم. طلب ملك نابولي من الملك الناصر محمد بن قلاوون في العام 1333، الحصول على تصريح يسمح بإقامة رهبان فرنسيسكان في كنسية المهد والعديد من الأديرة بالقدس، وبات للهذه الرهبنة اللاتينية بعثة دائمة في بيت لحم، وموقع ثابت في المشاركة في إدارة أمور كنيستها.

كشفت أعمال التنقيب عن أرضية من الفسيفساء تعود إلى عهد يوستينانوس، وتُعتبر هذه الأرضية من أقدم الشواهد الأثرية في الكنيسة، وتغطي موقع المغارة التي شهدت ميلاد المسيح بحسب التقليد، وهي من النوع التزييني الذي يخلو من الصور الآدمية، وتحمل الإسم المختزل للمسيح، كما تحمل ما يُعرف بـ"عقدة الملك اسليمان"، وهي الإشارة التي ترمز للمسيح. كذلك كشفت أعمال التنقيب والمسح عن فسيفساء تغطي القسم الأعلى من الجدران، وهي مسيحية بيزنطية بامتياز، وتعود إلى العهد الصليبي، وقد أُنجزت في عهد الأسقف راوول بالتوافق مع الإمبراطور مانويل الأول كومنينوس العام 1169 كما تؤكد الكتابة المرافقة لها، وتحمل توقيع اثنين من الفنانين الذي أنجزوا هذه الزينة. الفنان الأول هو "الراهب افرام"، واسمه مدوّن باللاتينية وباليونانية. والفنان الثاني اسمه "الشماس باسيل"، واسمه مدوّن باللاتينية وبالسريانية، ويشهد على مشاركة فنانين محليين في إنجاز هذه الزينة الفسيفسائية.

شجرة عائلة يسوع
في هذه الجداريات، تحضر شجرة عائلة يسوع بحسب انجيل متى (1، 1-17) وانجيل لوقا (3، 23-38) إلى جانب الصور التقليدية التي تصور مشاهد من حياة المسيح، إضافة إلى صور تمثّل عدداً من المجامع المسكونية، ويظهر الأثر الإسلامي العربي في عناصر زخرفية تحاكي بشكل مباشر زينة المسجد الأموي في دمشق. إلى جانب هذه الحلة الفسيفسائية، نقع على رسوم مجموعة من القديسين تزين العواميد الداخلية للكنيسة، واللافت أن هذه المجموعة تعكس الهوية المزدوجة للكنيسة في هذه الحقبة، فبعضها يمثل قديسين "غربيين" من كبار أعلام الكنيسة الكاثوليكية اللاتينية، والبعض الآخر يمثل قديسين "شرقيين" من كبار أعلام الكنيسة البيزنطية الأرثوذكسية، والكتابات التي ترافقهم مدونة طوراً باللاتينية وطوراً باليونانية.

في سنة 2012، أُدرجت كنيسة المهد في لائحة التراث العالمي لمنظمة اليونيسكو، وكانت أول موقع فلسطيني يدرج في اللائحة، وجهدت السلطة الفلسطينية في ترميم آثارها وحفظها منذ ذلك الحين، ونجحت في مهمتها، مما دفع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة إلى استبعاد هذا الموقع التاريخي من قائمة التراث العالمي المعرض للخطر.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024