رامي الصباغ.. سينما صامتة وأيقونة في معرض روائي

حاوره وضاح شرارة

الثلاثاء 2018/12/04
في 29 تشرين الأول و30 منه، دعت الجمعية اللبنانية للفنون التشكيلية، أشكال ألوان، إلى مشاهدة أشغال فيديو 2018. و"ركعتان في العشق" هو عمل رامي الصباغ، المخرج والناقد السينمائي والشريك في تأسيس "دواوين"، وإسهامه في البرنامج. واستوضحته المحاورة التالية بعض جوانب عمله.


- كيف "يروي" رامي الصباغ "ركعتان في العشق"؟ كيف يُروى هكذا شريط؟

* رواية الشريط تحدٍ. وقد يعود هذا إلى الوقت الطويل الذي استغرقته كتابته. فمنذ ثلاث سنوات إلى الأسابيع القليلة التي سبقت التصوير في أثنائها كتبت النص، ثم أتممت كتابته البصرية. وكنت أسأل نفسي: لماذا هذا الشكل؟ ودعاني تمرد بعض شخصيات الشريط على مخططي إلى النظر من جديد في التصوير والتوليف، والاعتذار عن الفشل في التصوير. ولكن ثمة خطاً اتفقت عليه مع من عملوا معي، ومع صديقي فارتان أفاكيان (المونتاج) على الخصوص. وأرى أن الفيلم من 4 أقسام:

1- مقدمة: امرأة تنظر إلى الحياة، والحياة هي في مقدمة الشريط نهر ومجرور ومبولة ومجرى زمني، فتلعن حال العالم وترتيب هذه الحال، وتدعو إلى مقاومته بالشعر. والجزء الملوث من العالم يلوث المرأة، وعدواه هذيان يخلط الناس بالناس. والإلقاء الشعري الذي يرافق الصور يدور على الدفاع عن القمر ويتسم بالعنف. والفيلم هو جواب الدعوة.

2- الكتاب الأول هو القسم الثاني من الشريط. ويتناول تخيل بيت كبير مسكون بكلمات، أو ربما بإلهام الكلمات وأحوال التمرد التي توحي بها وتمزج المنطقي باليومي. وسمحت لنفسي بالتنقل بين متناقضات، كمن يكتب الشعر. وأصور في هذا الجزء شخصية مستوحاة من تراث سينمائي مشهور هي شخصية مصاص الدماء (الفامبير). ويشتبه أمر الشخصية: هل كانت مصاص دماء أم صارته؟ وهذا (الفامبير) يسكن الغابة حول البيت وهو مسكون بها. وأنا أتمنى إنشاء كائن سينمائي يعي سينمائيته، ويدرك أنه مصنوع من صور، شأن النبوة والقداسة، ومن "بيكسيلز" وأصوات، إلخ. ويدرك أن "الفردوس إسم حزين" لأن النهاية والموت أقوى من الإدراك. ولا أدعي أنني أعرف جواب السؤال: هل ينتهي الشريط بكاميرا أم بانتقام؟

3-  الكتاب الثاني هو الجزء الثالث. ويقوم على "ديستوبيا" (طوبي مقلوبة وسوداء) بنيتها وأنا أفكر في تيتو. وتيتو (الزعيم الشيوعي "اليوغوسلافي") هو مدخلي الكبير والواضح إلى المثال البطرقي والحزبي المتسلط. وأراه معضلةً "جميلة": فهو سلطة أبوية مجرمة يحبها الناس، يحبها واحد مثل جيجيك (الكاتب الكرواتي)، غير قاتمة، على خلاف ستالين. وفي النص الذي يقرأ في الشريط: يقال أن والده كان "مارداً طيباً". فالمجتمع، في مرآة "ركعتان في العشق"، يطلب من الذكورة كل هذا: البناء، التحقيق... ويفترض مثل هؤلاء الرجال. فهو عالم قاتم وقاتل، يدخله ملاك، شَبَه ملاك، يحاول إنقاذ الشخصية المركزية. ويسمع الملاك نداء الحلاج، إدراك الحال وضرورة الموت والدم على طريق أو في سبيل "وجود الوجود"، العاشق والمعشوق. فموضوع الذكورة البطرقية يليق بالمتصوفين. ويترتب عليها إلغاء النساء، على ما يصنع المجتمع العربي، اليوم.

4- الجزء الرابع هو الأصعب. النص تقوله المرأة، وهو قول في مؤامرة على القمر، تمرد مباشر على أميركا والرأسمالية والليبرالية، وعلى كل الذين يريدون الصعود الى القمر وتحويله إلى تلفزيون. فلا يسع الشخصية المركزية ولا الملاك تخطي السلطة. فيموت الأول، ويعود الثاني إلى البحر خائباً وهو يردد كلمات الأول...

- في مقابل روايتك لشريطك، وقبلها طبعاً، أحصيتُ في الكتاب الأول (الجزء الثاني من الرواية)، طوال 27 دقيقة من 50 د.، 27 صورة- فقرة (بلان- سيكانس، في الفرنسية). وفي الصور- الفقرات الأوائل رأيتُ ما يلي: رجلاً يولي المشاهد ظهره ويستقبل مراسم الاحتراق، ماءً وضوءاً في جوار عتمة، انقلاب الأرض والماء إلى سماء وأطوار الانقلاب وهجومه على المشاهد، ابتلاعَ الأفق المكان المتناسل من نفسه، سماءً وأرضاً ونجوماً والكون الأوسع، عمودَ ضوء، التماعات الضوء في جنبات الصورة، بيروت ضوئية وخريطة متلألئة تسور البؤر المعتمة، ماءً وضوءاً متمازجين وظلمة تحيط بجداول ضوء، تنقل جداول الماء بين النور والظلمة، ذواءً واشتعالاً، نهراً وشاطئين، صوتاً يسمي: جزيرة وماء وضوءاً، ظلمة وصمتاً متقطعين، بارقاً على شاكلة إهلال، رافداً يصب في بحيرة، عيناً كبيرة راكدة، مياهاً فائرة وضوءاً نظير عين صخرية مطفأة في وسطها نقطة ضوء... هذا كله في الصور – الفقرات الثماني الاول. فهل ما "رأيته، وهو ملخص رموز كونية ووجودية جوهرية،" ووصفته لتوي "حقيقي"؟

* أكيد! فالصورة تتمرد على ما يقصده المصور منها. والجزء السينمائي أقوى من ترتيب عناصر الرد أو بناء الرواية. وإذا أعدتَ عليّ السؤال الأول لأجبتُ إجابةً مختلفة عن إجابتي. فالسينما تمردت على التعبير المنسق عن حال ثابتة وواضحة تعرّف الشخصيات والمكان. والفقرات الأولى التي صورتها هي النهر. وهذه الصور استدعت خلق شيء كوني، وجرفت نحو هذا الشيء. الجزء الأول (الرجل الذي يستقبل مراسم الاحتراق...) يصور الملاك المخلص، والحال الأولى تتناول مدينةً فرغت من الحياة يدخلها مخلص، فتتعاظم الاحتمالات لتبلغ إطار الكون الكبير.

- تحت باب أو عنوان "الكتاب الأول"، تجري مياه، وروافد تجتمع وتفترق، ويومض البرق في جنبات الصورة، وتركض السحب... فهل هذه حوادث؟ وما معنى الحادثة حين يكون موضوع التسلسل الزمني "عنصراً" (على معنى العناصر الأربعة: الماء والهواء...)، ويتغضن الماء على سطح البحر أو تشتعل النار وينير النور...؟

* هي حوادث على معنى "الظهور". أحمل وشماً على ذراعي: جبريل يوحي إلى محمد، وهو منمنمة فارسية على شاكلة أيقونة. والأيقونة مصدرها الشخصي تربية أرثوذكسية. والسينما الأولى، الصامتة، أيقونية، أرثوذكسية، دعوة إلى ترك التصوير بزوايا ومن زوايا (موضعية). والحوادث الكونية مقدمة إلى إنشاء مادة شعرية. وبعد انجاز الشريط انتبهت إلى أعمال المخرج جان إيبشتاين: رؤيا الانسان- الملاك، الحوادث على صورة طقوس تجلي الإنسان- الملاك. والملاك هو على الدوام الشيطان إو إبليس الحلاج. وإبليس اليزيديين هو العارف الكامل بالله والحب. والمشكلة، المعضلة الجميلة، هي أن بروز أو تبلور قراءة واضحة يكاد يكون دعوة إلى التمرد عليها، وهذا يتطلب إبقاء جزءٍ غير واضح. فالمعرفة أو الإحاطة بأمرٍ ثمنها خسارة التخيل.

- في الكتاب الثاني (تحت هذا العنوان) فقرات قصصية روائية: رجل يحمل مطرقة ويكسر الأحجار، رجل يشق جسماً لزجاً بقطعة نقد معدنية، رغوة صابون في مغطس تحاكي طوفاناً، والفقرة الأخيرة تروي لقاءً ربما عراكاً بين رجلين فيسقط أحدهما ربما ميتاً بينما يمشي الثاني صوب البحر في بذلته... وقد تقتصر الحادثة على تبادل النظر... هل الحادثة حين يحضر البشر هذه المرة؟

* في الكتاب الثاني يكثر السرد من غير شك. وقوام هذا السرد مبادرة إنسان إلى محاولة إنقاذ إنسان آخر. والعالم هو عالم رجال، من غير نساء، ينتحلون أدواراً أمام آخرين ويزعمون استكمال ما هو موجود وقائم. وحين يستقر سياق في الشريط، وتستوي لحظات جميلة، تلح عليّ حاجة إلى الاعتراض على السياق. وهذه "الديستوبيا" يسكنها شخص مركزي: يصور تمثال العذراء ويظهِّر الصور الفوتوغرافية في حوض أمونياك... والتمثال ظل عالم قديم وسابق، والنظر إليه على شاكلة النظر إلى معبد قديم. والرجال هم أبناء تيتو: أبناء نظام يرفض الاعتقاد. ومن ناحية أخرى، عالم الأيقونات قديم ويدعو إلى شيء مختلف. وفي الفقرة الأخيرة يحاول كائن ملائكي إنقاذ الرجل من الديستوبيا وتفشل محاولته، ويخيب تمرده.

- صور الشريط بالأسود والأبيض والظل، هي صور السينما غير الناطقة. والفقرة غير سائلة، والانتقال من فقرة إلى أخرى على صورة القفزة، لماذا؟

* أحد أسباب القفز، على صعيد النوايا، هو السماح للشخصية المركزية بالانتقال المفاجئ، حيث لا سرد واضحاً و"البطل" يفتقر الى قصة، وبإدراكه هذا الانتقال وطبيعته السينمائية. وهو حين يقفز يتلفت إلى كل الاتجاهات ويتشكك في كونه هنا تحت أنظار الآخرين. وهي حال الناس قبل بعث النبوءات، وحال الذهاني (المصاب بالذهان والانفصام من أحواله) حين يدخل المستشفى. وهذا العالم مستقل عن عالمنا، وعن مألوفنا. وأرى ضرورة التعبير أو أطمح إلى مثل هذا التعبير عن المسافة الفاصلة بين العالمين في شكل درامي.

- الأصوات والنبرات في الشريط تبدو ظل أصوات تصدر عن داخل نفسي وتطفو الكلمات على موجها، فهي كذلك التماعات تعود لتغرق في قاع متصل الصمت، فلماذا الكلام؟

* ما عدا النص الأخير، والمرأة التي تتلوه يعلن صوتها أن ثمة مؤامرة... على القمر، ينبغي أن تنطق الشخوص الأخرى بالكلام لأول مرة منذ زمن. وأتوقع في هذه الحال أن يحس المشاهد بأنهم يتكلمون بعد صمت ويكتشفون الكلمات حين ينطقون بها، وهي تتولى مقاومةً خائبة للحدث. ومعظم النص كتب بعد التصوير وفي ضوئه. ومن أدوه استهولوا أداءهم. وطوفان الكلام على الصور إقرار بعجز الصوت عن التغلب على حال الحياة التي يرويها الشريط، وتواطؤ على رثاء العالم الهش. وقد يكون أفضل للشريط ألا يتضمن نصاً. والتوليف الصوري خلقٌ متكامل، ومحاكاته السينما الصامتة حرفية. وحين يُسمع الصوت تَعمدتُ تسويد الشريط، وحاولت إسكان الصوت الصورة، على قول مارغريت دوراس، رجاء خلق عالم طيفي. واللهجة التونسية في الفقرة الأخيرة، وهي لهجة حجرية ومائية، تمثيل على الشعوذة وعلى حال العالم الذي يتمرد عليه الفيلم.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024