موت الشعر الفرنسي وعيشه

روجيه عوطة

الجمعة 2021/03/19
كان بودلير قد قال ذات مرة أن فرنسا ليست بلاداً شاعرة. ربما، يجد اعتقاده هذا شكلاً له في حال سوق الأدب الفرنسي اليوم، بحيث من المعلوم أن ثمة من يحكم عليه بكونه روائياً اكثر مما هو شعري، لا بل أنه يهمش الشعر، ولا يترك له أي مجال فيه. كما أن الاعتقاد اياه، وعند التقدّم على أساسه من وضع الشعر، لا في السوق، إنما كنوع، كممارسة، يبدو دقيقاً للغاية. 


فتمجيد الشعر، الذي لطالما كان يشغل مطرحاً في ذلك الأدب، قد صار شبه معدوم. فحتى حديث جان - بيار سيميون الشهير قبل سنوات عن كون الشعر ينقذ العالم، قد بدا انه لم يصل إلى أي مسمع. فما عاد الشعر موضوعاً للتعويل عليه من قبل أي كان، صارت كتابته تدور من دون تحميله هموم كبيرة، أو بالأحرى من دون الاشارة إلى أنه يتسم بعاتق يمكّنه من حملها. بالطبع، وضعه هذا، وإن ظهر سيئاً، فهو على العكس ملائم لإعادة خلقه، وهذا فعلياً ما يحصل له.

فاعتقاد بودلير، وفي حين انه يبرز على شكل له، فهو، وفي الوقت نفسه، يصطدم بنقيضه.  فالسوق نفسه، وفي حين انه يفرط في روائيته، فهو أيضاً يزدهر شعرياً. يمكن مثلاً الدخول إلى موقع سوق الشعر marché-poésie.com، والاطلاع على دور النشر التي تشارك  في فعالياته السنوية، إذ إنها بالمئات، كما أنها تتزايد كل عام. بالتأكيد، هي ليست دور نشر ضخمة، أو شركات نشر، إنما دور صغيرة، تخلقها مبادرات فردية، وغالباً من قبل قراء للشعر أو من قبل كتابه أيضاً. فتهتم هذه الدور بنشر  ما يجد من الشعر، او وضع قصائده في مطبوعاتها على اتصال مع اطرزة تعبيرية أخرى . بالإضافة إليها، يمكن ملاحظة كثرة الصفحات المعنية بالشعر في مواقع التواصل، وهذا قد يكون مرده أنه هو الأقرب شكلياً من البوست أو التغريدة، كما أنه ادماجه في الصورة يسير. بالتأكيد، لانتشاره الانترنتي أثر عليه، أو معنى موته،  ولكن، هذا لا يعادل أنه يفقد كل قيمته بفعله، فهو عائش إلى جانب المماثلين له من الموتى!

وفي السياق ذاته، الكلام عن سوق أو انترنت شِعريَين يحمل إلى القول النافل بأن الشاعرات والشعراء لم ينقرضوا، انما، وعلى العكس تماماً. من باب التذكير فقط: نتالي كانتان، مات مالن، توماس فينو، لونا ميكائيل، ريم بطال، جيروم غايم... كل هؤلاء وغيرهم كثر يواظبون على نشر قصائدهم، عدا عن التجادل في أدبهم، حول شؤونه، لا سيما تلك المتعلقة بأدواره، وبمواضعه، بعلاقته بالمؤسسات الثقافية والفنية... وهم، على الغالب منهم، وحتى إن لم يقرظوه على الطريقة القديمة، يفعلون ذلك على طرائقهم، التي تفيد بإيمانهم به، وبمحله الذي يعتبر ضئيلاً أو جانبياً، والذي يؤلف فرصته. فعلياً، لا يمكن الاشارة إلى حضور مشترك بعينه بين قصائد هؤلاء الشاعرات والشعراء، ولكن، ثمة ملامح لها، من قبيل الاهتمام بالمعاش اليومي، الإبتعاد عن الغنائية، العودة إلى الرنة، الشغل على الشكل النصي.

ومع هذه الملامح، هناك تقديم للشعر بما هو من دون صلة بما كان عليه في الماضي، لا هو هوغوي نبوئي (هوغو)، ولا هو آراغوني ملتزم (آراغون)، ولا حتى يرتبط بمعزوفات أيار 1968 ، هو على صلة بكتابته من قبل كل شاعرة وشاعر بحسب تجاربهم المختلفة، بالفضل عن حرفيته أيضاً.

على هذا النحو، يصح الاعتقاد البودليري بكون فرنسا ليست بلاداً شاعرة، وفي الوقت نفسه، لا يصح البتة. لكن تأرجح الاعتقاد هكذا ليس سوى علامة على أن الشعر ما زال حاضراً. وهو، إن لم يأخذ حيزاً في المشهد العام، فهذا لا يعني أنه زال من الوجود. ما يحيل الى ما كتبه مرة فكتور بلون، حول أن الشعر، وحين يكون في مطرحٍ من المطارح، لا يكون أحد غيره فيه، أما، وحين يتواجد أحد ما في هذا المطرح، فهو لا يكون!

(*) الصورة لويس أراغون

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024