خذوا يا لبنانيين ضحكاً وصَمغاً

رشا الأطرش

الثلاثاء 2020/12/29
يدخل "المخلوق الفضائي" الاستديو، راقصاً، متلوياً، بعد مقدمة تساؤلاتٍ من المذيع عن هويته: هل يكون طوني بارود، تَيم حسن، أم مايا دياب؟ فتصويت الجمهور في السوشال ميديا صبّ في مصلحة الإسمين الأولين، والحماسة ضاربة – أو هكذا يُتوقَّع منّا أن نفهم. يجلس "الفضائي"، المخبَّأ وجهه خلف قناع، والمموّه جسدُه بلباس محشو -حيثما يجب- لإخفاء أي تضاريس قد تشي بجِنسه. يستقر بين الضيوف الدائمين للبرنامج، وهُم، على ما يُفترض، من خيرة الوجوه والأسماء الإعلامية والفنية، ثم يحاوره المذيع: ماذا تأكلون في كوكبكم؟ فيجيب بصوت الكتروني: مناكل هوا. كيف تدخلون الحمّام؟ فيشير إلى فمه. وأي إصبع تستخدمون للشتيمة؟ فيحيل "الكائن الزائر" السؤالَ إلى أحد الضيوف المستظرفين الذي يرفع الخنصر حيث يُلبَس خاتم الزواج. ويستمر الحوار "الشيق" زمناً ليس بالقليل، قبل أن يقطعه فاصل إعلاني، خلع من بعده "الفضائي" قناعه لنكتشف إنها مايا دياب، وليُثني المذيع بيار رباط على كونها "فنانة أدائية" بامتياز، إذ نجحت في إخفاء كل ما يمكنه أن يدلّ إلى شخصيتها (ما هو مفهوم الأداء أصلاً؟)، واعداً المشاهدين بالمزيد من الاكتشافات على امتداد الحلقات المقبلة من برنامج "إم تي في" الجديد "ع غير كوكب".


هذا السخف كله، ليس حكراً على "إم تي في" وبرنامجها القنبلة. لكنه نموذج دالّ، لا سيما أنه إنتاج طازج، "فريش" بلُغَة المصارف، والحلقة المذكورة باكورته، أي أنه المستوى المُقدّم عن سابق تّصور وتصميم للمرحلة الراهنة التي يرزح فيها اللبنانيون، وبموازنة لا تبدو بسيطة في حسابات أيام العُسر، حتى بالنسبة إلى المؤسسات الكبرى التي ما انفكت تقلّص رواتب وتصرف موظفين. وهي باكورة مذهلة حدّ البؤس، تنطلق في زمن استفحال كورونا، وضبابية مواعيد وصول اللقاح وكميته وجودته. تُطلق في وجوهنا، بعد ثورة شعبية موؤودة بأثمان باهظة، واللاشيء الذي يحدث في شأن إفلاس الدولة بفعل فاعل منذ أكثر من سنة، والانفجارات والموت والدمار، والاغتيالات المتزايدة، المغيّب فاعلوها فيما قُضاتها محور ترهيب وتجاذب، فيما جلّ اللبنانيين، المنهوبة أموالهم وودائعهم، غارقون في أزمة مالية واقتصادية تاريخية غير مسبوقة.

بالطبع، لا خصوصية لـ"إم تي في" هنا. فمتابعة عشوائية يومية لمختلف القنوات اللبنانية، تؤكد الحالة المستشرية، وبرامج "التحقيقات الاجتماعية" المعجونة بالكيتش، وضيوف الربع ليرة الذين يقولون أي شيء وكل شيء لتعبئة هواء ممتد، من التحليل السياسي إلى المؤامرة خلف لقاح كورونا. أما جوهرة التاج، ففيديوكليبات غنائية لم يَجُد الزمن اللبناني بأسوأ منها، حتى حينما ضرب القعر في أكثر مراحل تاريخه التلفزيوني والغنائي رثاثة وفوضى. وجوه وأسماء تنبت كالفطريات، وبأعداد مُفاجِئة. مساحات إعلانية جديدة في الشاشات اللبنانية، تعرض في أوقات الذروة، وتستمر ردحاً من الزمن التلفزيوني الثمين. الكل، الآن، أياً كان ومهما كان، يمكنه ملء شاشاتنا ومساءاتنا. فالإعلان مقدّس، والمُعلِن حر في ما سدّد ثمنه. هكذا نتفرج على تصوير كلمات وألحان بالكاد تسمى كذلك، في غرف أو علب يفترض أنها استديوهات، والأرجح بكاميرا واحدة. من نافل القول أننا لسنا في صدد الأعمال الفنية البديلة، المتصدية بالنوعية للإنتاجات المكلِفة. الركّ هنا على "غرافيكس" وتبديل ملابس، والغالبية تستخدم مقاطع فيديو لمناظر طبيعية، غابات ومروج وحدائق ورود وحبيبين على شط البحر، من النوع الذي نجده مجاناً في الانترنت. أما إذا كانت الأغنية "وطنية" – وهذه متفاقمة محمومة أيضاً – عن لبنان الذي سيقوم والشعب الذي لا يُهزَم والدموع حارقة وجنات الأمهات، فالأمر يصبح أسهل بكثير. فالفيديوهات "الجوكر" جاهزة ومتاحة ومجانية من أرشيف التلفزيون الذي يتبنى الكليب. مؤثراتها الخاصة وفواجعها، منها وفيها، والجهد الوحيد المطلوب هو المونتاج، قص ولصق. انفجار المرفأ ودمار بيروت، الدخان الملون وهزات الكاميرا، يُدخَلُ عليها تراكض عناصر الإطفاء والدفاع المدني، والشباب المتطوعون لإزالة الركام والإغاثة. وأقصى التنويع، إبطاءُ الصورة أو إسراعها بحسب "الانفعال" المطلوب.

لعل التفسير الأوليّ لهذه الظواهر، من الابتذال والتفاهة والرخص القسري، يكمن في الأزمة اللبنانية نفسها. إذ قد يبدو طبيعياً أن الإفلاس اللبناني العميم، لا يستثني منتجات الثقافة السائدة، أو التي تصبح سائدة. إفلاس الموازنات، إفلاس الأفكار، إفلاس الإنتاج. خواء وانهيار لا يتوقع عاقل أن ينحصر في المصارف والمستنقع السياسي، والمدرسة والسوبرماركت والصيدلية. الدمار الأصيل لا يحدّه نوع أو قالب. والمواهب تهاجر. ونجوم "البوب" الأشهر (ويا محلاهم أمام هؤلاء الزومبيات!) يتكلون على حفلات في الخارج، أو حتى لا يعملون، لولا أغنية مفردة هنا أو كليب هناك، وغالباً بتحويل المأساة البيروتية ما غيرها، مسرحاً، بلا أي إضافة للمعنى. إنها الفرصة المثالية للمجانية، بأعمق معانيها. وصارت هبة طوجي، أم كلثوم ومارايا كاري المرحلة، ضربة واحدة، وأسامة الرحباني صانع برودواي اللبناني وفيلسوفه.. تماماً كما أن مايا دياب هي "شريهان" الراهن، "مادونا"، "الفنانة الأدائية المتميزة"!

ثم إن الناس تبحث عن مهارب، كما يقال. "نتفليكس" ليست للجميع، ولا مشاهدات الانترنت إن توافرت. يفتح "الشعب" التلفزيون، وبعد نشرة الأخبار وربما المقابلة السياسية التي تتخللها إعلانات المصارف(!) والشركات العقارية التي ترحّب بتقاضي شيكات مصرفية(!!)، يريد "الشعب" أن ينسى. المسلسل اللبناني الممجوج، والتركي المكرر، ما عادا كافيَين. فخُذوا يا لبنانيين ضحكاً وبذاءة وصمغاً لزجاً مُخدِّراً. ولا بدّ أن أرباحاً ما تتحقق، وإلا لما استمر بها القيّمون على التلفزيونات، وهم حراس "الراتنغ" الأوفياء، والآن أكثر من أي وقت مضى.

لكن التفسيرات هذه تبدو منقوصة. فللثقافة الجماهيرية قول ورمزية إضافيَين. لستيوارت هول مقولة شهيرة: "الثقافة السائدة هي أحد مواقع الصراع، من أجل وضدّ ثقافة الأقوياء، وهي أيضاً الرهان الذي قد يتم الفوز به أو خسارته في هذا الصراع. هي حلبة الانصياع والمقاومة. هنا، ينشأ بعض من الهيمنة (الثقافية)، وهنا تُضمَن هذه الهيمنة".

اللبنانيون الأقوياء، شبكة الحكم السياسي والمالي، الصامدة عجائبياً، والتي تصبّ أيضاً في الإعلام الجماهيري، رغم كل ادعاءات العفّة و/أو التمرد الثوري.. هذه ثقافتهم، وهذه صورتهم، والغيبوبة التي ينفثونها في الناس كل ليلة كالنعاس. وهي لا تشهد أي مقاومة حالياً، إلا باستثناءات لا تُراكِم تياراً متصدّياً. فكما في الشارع، كذلك في فضاءات الثقافة السائدة. اللبنانيون يخسرون هذه الساحات، فوق سائر خساراتهم. ربما لم ينصاعوا بعد، لكنهم مهزومون. ربما لم تتجذر الهيمنة الجديدة بعد، في ظل السوشال ميديا، بغثّها وسَمينها، لكنها تضرب أوتادها في الأرض، وإن لم تهيمن بقوتها، فلعلها تفعل بواقع أنها بلا منافسة فعلية.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024