رحلة إلى الجرح

عاصم الباشا

الأحد 2013/02/03
اليوم 8-3-2012 سمعت الخطر جهارًا ورأيت الموت مواجهة.
بالأمس أودعت زوجي نيكول في مطار دمشق في السادسة صباحًا عائدة إلى مدريد, كنا قد نجحنا في مغادرة يبرود مع بدء اجتياح الدبابات لها، أي بعد انفجار القذيفة الرابعة. لم نهرب، فعلنا كي لا تضيع فرصة عودتها، وقد فاجأتني برباطة جأشها، تصرّفت وكأن قذائف الدبابات ولعلعة الرصاص من كل جانب أمر اعتادته. قيل لنا فيما بعد أنهم منعوا كل خروج أو دخول إلى المدينة بعد اجتيازنا حاجزي العسكر والشبّيحة بربع ساعة.
ودّعتها بعد يومين وانطلقت عائدًا إلى يبرود. لم أصادف عائقًا لوصولي إلى "عين العصافير" حيث مشغلي. في السابعة والنصف صباحًا كانت الشمس دافئة، فقلت لنفسي، عملاً بالتقليد الروسي بعد سهرة عامرة مع أصدقاء وليلة قضيتها بلا نوم، اشرب كأسًا من البيرة قبل أن تزور أمّك. ما أن تجرّعت رشفتي الأولى حتى ارتجّ الوادي بانفجار القذيفة الأولى، جاءت الإصابة على تاج صخري يعلو مكمني بحوالي المئتي مترً. كان الانفجار مريعًا بالفعل، ربما لقربه، ثم تبعه انفجاران آخران في الموقع نفسه. مكثت في مكاني أرقب الجبل علّني أرى حركة ما أو سبطانات الدبابات تطلّ. لم أر شيئًا. ثم توالت القذائف على الجبل المشرف على المشغل. قلت لنفسي: لحسن الحظ أن راعي الماعز الذي يشاركني السفح لم يخرج اليوم بقطيعه. ذلك الراعي طريف: صاح بي من الأعالي يومًا ليقول لي أنني محظوظ لأنني أعيش في عزلة عن الناس! لأنه يعيش في زحام قطيعه!.. مسكين، لا يعرف، أو ربما يعرف، أن ذلك أرحم.
ترافق قصف الدبابات برشق للرشاشات من النوع الثقيل.
ما أن هدأت الأمور حتى ذهبت بالسيارة إلى بيت الوالدة في الطرف الآخر من المدين. كانت يبرود أشبه بمدينة أشباح، إلاّ أن ثمة مجموعات من الناس هنا وهناك تترقّب وترمق كل مارّ بعيون تريد أن تعرف.
التقيت والدتي الأرجنتينية العجوز، تلك التي أورثتني قدرة الحضور الغائب وتقضي عامها الخامس والثمانين وهي تسمع أغاني التانغو يصدح بها كارلوس غارديل. علمت أن الإنترنت عن طريق الأقمار ما زال يعمل على الرغم من قطع الهواتف فكتبت لنيكول، وعدتها، قبل وصولها المحتمل بساعة، ثم زرت بيت أخي نمير الكائن تحت بيت الوالدة. زوجة أخي من المطلوبين من قبل الأمن، يعتبرونها ناشطة لأنها تتظاهر!. ثم عدت إلى مشغلي.
أما اليوم 8-3-2012 فخرجت في العاشرة على الرغم من سماعي قذائف الدبابات وبعض رشقات الرصاص. كانت السيارات المتحركة في المدينة شحيحة، المحلات مغلقة والمجموعات المترقّبة موزعة.
ما أن وصلت بيت الوالدة استقبلتني دراجة نارية تحترق وواجهتني دبابة وقرابة الخمسين عنصرًا، علمنا فيما بعد أنهم كانوا من الفرقة الثالثة (جيش) وقوى أمن مختلفة وشبّيحة بأزياء عشوائية. كان تمركزهم أمام بيت الوالدة. لاحظت كذلك سيارتي إسعاف تابعتين للهلال الأحمر السوري، علمت فيما بعد أن مهمتها كان نقل الشبّيحة! وثمة باص أخضر كبير كتب عليه: "سورية للأسد أو نحرق البلد".
تبيّن أنني وصلت لحظة مداهمة بيت والدتي وأخي.
أخي نمير محاصر بخمسة عناصر وقائد بلا رتب لم أجد فيه ما يذكرني بالبشر سألني: من أنت؟! أجبته: شقيقه. هويتك! صرخ. أعطيتها فعلّق قبل أن يطّلع عليها: تمشي معنا! قلت: لا مانع.
الغريب أنني لم أشعر بأي اضطراب، ها هم يعتقلونني وأنا أتفحّص المشهد. جلبة تأتي من الداخل وعناصر تدخل وأخرى تخرج حاملة ما ارتأوا سرقته بمنتهى الصفاقة. طلب "شبه البشر" من أخي هاتفه المحمول ولما وجده من النوع الغالي (أخي ميسور) خبّأه في جيب سترته. شعرت بمثانتي ممتلئة، ذلك لأنني كنت قد شربت زجاجة بيرة، فسألت: هل بمقدوري التبوّل قبل الذهاب معكم؟ قال بجفاف من يظنّ نفسه الأعلى: لا! تبول على حالك! وعاد ينشغل بأخي. سأله أين سيارتك؟ أشار أخي نحوها. المفاتيح، بسرعة! (وسرقوها بالطبع. بالمناسبة، لم أسمع صوتًا إلاّ وحمل لهجة الطائفة إياها. إنهم يتقصّدون ذلك للإمعان في زرع الكراهية). كنت أرمقه بنظرة النحّات، تلك التي يبدو أنها تخرمش، إذ وجدته يأمر عنصراً دون أن يلتفت إليّ: رافقه ليبول. مضيت إلى داخل البيت يتبعني العنصر مصوباً الكلاشينكوف إلى ظهري. العناصر يعيثون في غرفتين وآخرون يأكلون في المطبخ ما تسنى "يبدو أنهم جوعى" فكرت. باب الصالة التي تكون فيها الوالدة عادة مغلق. رحت أبول والسلاح مصوّب إلى ظهري. "وكأنني سأستخدم عضوي المتهالك سلاحاً!" خطر لي.
الحقيقة أن الهلع والقلق كان بيّناً على سيماء كل من صادفت منهم (تعرّضوا لبعض الكمائن سابقًاً في يبرود ونواحيها). خرجنا وقادني باتجاه الباص حيث كانوا قد أدخلوا شقيقي. قبل أن نصل ظهر عنصر يحمل هويتي ويقول: هذا العاصم اتركوه!.. يبدو أن إسمي ليس في القائمة بعد.
أعادوا لي هويتي. أطلق رشاش ثقيل مركّب على بيك أب رشقات باتجاه الجبل.. من قبيل الوداع. ثم تحرّك الفيل المعدني ذو الخرطوم المتيبّس وتبعته بقية الآليات ناقلين معهم إلى المجهول أناساً.. بينهم أخي. (ما كنت أدري أنه آخر عهدي به).
دخلت أتفقّد أمّي، وجدتها مستلقية، في عينيها المنفرجتين كل تساؤلات العالم، لكتني لم ألحظ أثراً لخوف ما. لم تدرِ أنهم اعتقلوا ابنها. قلنا لها بعد أيام إنه سافر إلى الإمارات.
تفحّصت الخراب الذي أحدثوه فيما يسمّونه تفتيش عن الأسلحة! اكتشفت أنهم سرقوا كمبيوتري المحمول الخاص وكمبيوتر الدار.. وأشياء أخرى. أذكر كيف لوّح قرد قصير بوجهي، وأنا ذاهب للتبوّل، بتمثال نصفي صغير حاول صانعه (همام السيّد) تمثيل الماغوط (دون أن يوفق تماماً) وأهداني إياه، صرخ بشماتة الجاهل: وعندكم آثار؟!! وخرج به وكأنه يحمل كنزًا.
سعدت لأنني لا أحفظ في بيت أهلي وإخوتي أعمالاً لي، لأنهم يقدّرونني لكنهم لا يتفهّمون ما أصنع.
زوجة أخي تبكي، هي، المطلوبة أمنياً لم تُعتقل، وكأنهم أخذوا أخي بالنيابة عنها، أخي شادي، المكتئب المزمن، يتحرّك كالتائه. حاولت إعلام زوجي بالأمر مستخدماً حاسوب إبن أخي، لكنني لم أفلح، فقرّرت التوجه إلى المشغل، أقلقتني فكرة أن يصلوا قبلي.
كان هذا سماعي للخطر جهارًا.
9-3-2012
تعقيب: اعتقل أخي نمير ما يقارب الثمانية أشهر . كان في الواحدة والخمسين من عمره. أفرج عنه ليموت بعد خمسة أيام في العناية المشدّدة لمشفى خاص. "فقد 45 كلغ من وزنه" أخبرني صديق. لم يحتمل آثار التعذيب ومات في 31 -10-2012، منذ ثلاثة أيام .
عودتي الأخيرة إلى الجرح كانت في أوائل أيلول الماضي. حذّرني الأصدقاء والأهل من كل مكان : إسبانيا، بريطانيا، فرنسا، لبنان.. وسورية (لأن موقفي من النظام معروف ومعلن). لكنني كنت مصرّاً. وصلت إلى دمشق بعد أيام قضيتها في بيروت. حواجز خمس، مررنا بها بسلام. الإشكال كان الوصول إلى يبرود المحاصرة لأن الجيش الحرّ فيها.
وصلني وأنا في دمشق أن القصف على منطقة المشغل يوميّ، وقبل انتقالي إليها بيوم واحد علمت أن طائرة ميغ ألقت قنبلتها على مسافة 30 متراً من المشغل، وأن النوافذ والأبواب محطّمة تماماً لفعل ضغط الانفجار.
كان لا بدّ لي من المغامرة لمحاولة إنقاذ 24 سنة من العمل !
أنجدتني المصادفة، فثمة صديق مقيم في دمشق اعتاد الانتقال مرتين بالأسبوع إلى النبك، الواقعة على مسافة سبع كيلومترات عن يبرود. قال لي أن الحواجز اعتادت عليه فلا تستوقفه، فانتقلت معه إلى النبك ووجدت هناك ميكرو للعموم متوجّهاً إلى يبرود. سألت السائق: وكيف تصل عبر الحواجز؟ قال لي : اركب، لن ترى حاجزًا !
تلك حكمة وحنكة شعبنا، راح الميكرو يتلوّى بين المزارع وطرقاتها، الترابية حيناً والإسفلتية حيناً آخر إلى أن وصلنا بسلام.
في اليوم التالي ذهبت لتفقّد حال المشغل والأعمال. كانوا قد أخبروني أن لا أحد يجرؤ على الاقتراب من المكان وأن الحيّ المجاور مهجور تماماً . إلاّ أن أحد أخوتي كان قد تمكّن من إصلاح حال الأبواب.
وضعي الصحّي يستجيب لعمري: انسداد في أحد شريانيّ ساقي اليسرى يسبّب لي آلاماً عند بذل الجهد، وليزيد الطين بلّة اكتشف الأطباء الإسبان في الصيف المنصرم انقطاع وتر من كتفي اليسرى وآخر نصف مقطوع وهو ما يمنعني من تحريك الذراع كما يجب.
وما من أحد يجرؤ على مساعدتي لنقل الأعمال وتوزيعها في أماكن شتّى، عسى بعضها يتجنّب القصف أو الدهم والنهب (قد يعتبرونها آثارًا!).. فاضطررت إلى تدبير أموري وحدي.
كان القصف يوميّاً، بلا توقيت محدّد، ومركّزاً على المزارع والمباني المحيطة بالمدينة باعتبارها الأماكن التي يتحرّك فيها الجيش الحرّ. والمشغل في موقع مثالي للاختباء، لذا كان هدفًا محتملاً .
أقمت في المشغل في الأيام الأولى وسرعان ما أدركت أنها مخاطرة مجانية فانتقلت للسكنى في بيت الوالدة الواقع في الحيّ الأكثر قصفًا !
قرّرت أن أنقل ما أمكنني في رحلات يومية ثلاث: الأولى في حوالي السادسة صباحاً، لأن القصف لا يبدأ قبل الثامنة. وفي فترة غداء الظهر... ورحلة ليلية قد يكتنفها شيء من المغامرة.
أمضيت قرابة العشرين يوماً على هذه الشاكلة. في مرّة وحيدة بدأ القصف وأنا هناك، وصادف أنني كنت أشرب البيرة في حالة راحة، فأخذت كأسي وابتعدت عن المباني في عمق الوادي الصغير منتظراً أن يكفّ الجنون .
إلاّ أن كمية الأعمال كبيرة.. وأنا متعب. فتذكّرت نصيحة صديق لي في بيروت : ادفنها !
وهكذا كان. استطعت إقناع سائق آلية حفر ليعمل أقلّ من نصف ساعة، ليلاً وبلا أضواء (لأن طائرات التجسّس الإيرانية لا تغادر سماء يبرود والمنطقة)، وحفر لي ما طلبت. ثم كان عليّ نقل الأعمال، متحاملاً على آلام الساق والكتف، لترتيبها في "قبورها" ليلاً ، لأن طائرة التجسس قد تحسب أنني أدفن أسلحة.
لم أستطع دفن كلّ شيء، تركت لمصيرها عشرات الدراسات وأعمال الحديد وبعض الأدوات .. لكن الجسد قال لي: كفى. فاكتفيت. ثم مضيت عائداً إلى دمشق فبيروت فالقاهرة فغرناطة، حيث أكتب ذكريات زيارتي للجرح هذه.
عاصم الباشا، غرناطة، في 3-11-2012 ، بعد يومين من دفن شقيقي نمير.

 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024