في العيد الأكثر وحدة: هلوسات عن حب الذات

يارا نحلة

الإثنين 2021/02/15
جاء عيد الحب، أمس، حاملاً معه جرعة إضافية من الوحدة لعالم يحيا في عزلة ثقيلة منذ قرابة العام. عزلة دمرت علاقات كثيرة، تحوّلت بفعل الحجر المنزلي المرهق، الى أقفاص، بينما قلّت حظوظ الجميع في لقاء شركاء محتملين في حين أضحت الحميمية الجسدية مغامرة محفوفة بالمخاطر. 

في ظل هذه الوحشة الجماعية، أكثر ما لفتني هو سردية درء هذه الوحدة بعصا سحرية تسمى حب الذات. بدلاً من الإقرار بوجود فيل مثير للشفقة في الغرفة، هو كناية عن عوزنا العاطفي وحاجتنا الملحّة الاتصال الحميمي الذي ينعكس لا محالة في علاقتنا بذاتنا ونظرتنا لها، راح كثر يعلنون حبهم لذواتهم واكتفاءهم بها، كفلسفةٍ لقضاء حياة متفائلة ومُرضِية.

بالطبع ليست هذه السردية بجديدة على عالمٍ، كلما ازداد اغتراباً، ازدادت وتيرة استهلاكه لمفاهيم الحب بكل أشكاله وألوانه. في الانترنت آلاف الكتابات و"الدراسات" والكتيبات الإرشادية التي تمسك بيدك وتدلك، خطوة بخطوة، إلى الطريقة المضمونة لحب ذاتك، بصرف النظر عن واقعية هذا الحب. لا تعير هذه الفلسفة الكثير من الاهتمام لملامح الذات وخصوصيتها، بكل ما يعتريها من عيوب وذنوب وإخفاقات وخزي، عمليات نفسية توضَع في إطار التوهمات المتولدة من خيالٍ متشائم. وهي لا تدعونا الى جلسة مصارحة مع أنفسنا، نعاين فيها نقصنا عن كثب، أي تلك الفجوة الواسعة بين مَن نكون ومَن نرغب أن نكون، بل تُسارع الى ردمها بعباراتٍ جاهزة وعامرة بالخرافات. فهي تعرف مسبقاً أن هذه الفجوة لا يمكن سدّها بالكامل، الا أن الإقرار بهذه الحقيقة النفسية التي برهنتها التجربة البشرية لا يخدم النموذج الاقتصادي السلعي التي تتبناه ثقافة عِلم النفس الشعبي أو pop psychology.

تجد هذه الثقافة صداها لدى النساء خصوصاً، لأسباب بطريركية كثيرة، لكن بالدرجة الأولى لأنهن، تحت وطأة الضغوط الاجتماعية، أكثر ميلاً الى تفحص ذواتهن، الجسدية منها والرمزية، وجَلدها قبل أن يسبقهن المجتمع الى ذلك. تنكشف تناقضات هذه السردية في شعارات من قبيل "أحبي نفسك كي يحبك الآخرون"، أو "لن يحبك أحد ما لم تحبي نفسك". والمشكلة هنا هي في استخدام حب الذات كوسيلة للحصول على حب الآخرين، وليس كغاية قائمة بذاتها. في الظاهر، يدعو خطابها التقدمي الى التحرر من قيود المجتمع ومعاييره المرتبطة بجمال المرأة وجاذبيتها الجسدية. لكنه، ضمناً، يختزل ذات المرأة في صورتها، وذلك في إلحاحه على ضرورة حب المرأة لجسدها ولصورتها كمدخل لحب الذات.

أما المغالطة الأعظم التي تقع فيها هذه السردية، فهي بتعاملها مع حب الذات كعملية مستقلة عن الآخر ومتنصلة منه. فالحقيقة هي أن هوياتنا تتشكل من خلال الآخر، وعبر نظرته التي نستدخلها ونرى بها ذواتنا. على الحب اذاً، بما في ذلك حبنا لذواتنا، أن يمر بهذه الحلقة من التبادل والتماهي بين الذات والآخر، شأنه شأن الرغبة التي هي ليست سوى "رغبة الآخر" وفق تعبير المحلل النفسي جاك لاكان. لا مفر من نظرة الآخر ولا تنصل من رغبته، مهما حاولنا التسلح بتعويذات حب الذات والاكتفاء بها.

حب الذات ليس مجرد عاقل نرغم أنفسنا به. هو عمل شاق ومضنٍ من الاستغراق في الذات، وفي الآخر، بغية تفكيك عناصر هويتنا ومقابلتها بمعايير المجتمع وتوقعاته، والخروج نهايةً بخلاصاتنا الفردية التي لا يمكن أن تمليها علينا الكتيبات الارشادية لإيجاد السلام الداخلي. كما أن حب الذات ليس طقساً يومياً نمارسه بالوقوف أمام المرآة وترداد عبارات مشجعة، علّ الخدعة تنطلي علينا. إنه صراع مطول مع هذه المرآة، ورحلة شاقة في متاهة الانعكاسات التي سنرتطم خلالها بكل عيوبنا وأسباب كرهنا لذواتنا، بل واشمئزازنا منها، قبل أن نصل إلى شيء من التصالح أو التقبل لهذه الذات.. تمهيداً لحبها.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024