التكيف كأمر سياسي.. مع بربرا ستيغلر

روجيه عوطة

السبت 2020/06/27
يحمل الحديث الراهن لبنانياً، حول التكيف حيال الانهيار، في اثر تبديد واقعة 17 أكتوبر، إلى الكتاب الأخير للفيلسوفة بربرا ستيغلر، أي "وجوب التكيف. حول مقتضى سياسي جديد" (غاليمار). إذ إنها، وطوال صفحاته، تجيد النظر في موضوع التكيف، وهذا من ناحية علاقته مع الطاغي من الخطاب النيوليبرالي، الذي جعله فعلاً من أفعال أمره، متوجهاً به إلى الأفراد المستقرين فيه، أو المصنوعين بواسطته. فهو يلزمهم، وعلى الدوام، بأن يتكيفوا مع كل الأوضاع التي يتعرضون لها، وفي حال لم يفعلوا ذلك، يظهرهم كأنهم على نقص أو خلل في اراداتهم، أو بالأحرى في قواهم. وبالتالي، يؤرجحهم بين التكيف بحسب كل مستجد عليهم، والتذنب في نتيجة كونهم لا يستطيعون ذلك.

على أن ستيغلر، ولكي تقف على موضع التكيف في النيوليبرالية، محاولةً تأريخ وجوده فيه، تستدعي جدالاً بين المفكرين والتر ليبمان وجون ديوي في العام 1930.

فيجد ليبمان أنه لا بد للصنف البشري، الذي لطالما نشأ في مَواطن مغلقة، وعلى إيقاع بطيء داخلها، من تبديل حاله هذه في إثر الثورة الصناعية. وهذا، لسبب رئيسي، وهو أن هذه الثورة قد حولت، وبفعل تقنياتها وأسواقها وعلومها، كل مواطنه، وأفضت إلى بيئة جديدة، سماتها أنها سائلة، بالإضافة إلى كونها سريعة للغاية. من هنا، من الضروري لذلك الصنف أن يتكيف مع البيئة التي أنتجتها تلك الثورة له، مقلعاً عن انغلاقه، وتثاقله، فكلما استطاع التكيف مع بيئته المتدفقة والعاجلة، استطاع أن يركز عالمه ويوسعه. بالطبع، التكيف هذا لا يتحقق من تلقاء كل فرد من الأفراد فحسب، إنما، وأولياً، بفرضه كسياسة رسمية، تتعلق بأجسادهم وعقولهم وثقافتهم. وفي هذا السياق، يطرح ليبمان "حكومة الخبراء"، أو الاختصاصيين، أو التقنيين، بوصفها الحكومة الأمثل من أجل تشكيل الصنف البشري، من أجل ما يمكن تسميته، وإحالةً  إلى "إدارة التوحش" عند الدولة الإسلامية، بإدارة التكيف.

في المقابل، يتفق ديوي مع ليبمان حول أمرين. الأول، أن الصنف البشري متأخر عن الثورة الصناعية، أو عن البيئة التي صنعتها على وجه الدقة. والثاني، أن تأسيس السياسة على الداروينية حتمي. إلا أنه سرعان ما يتعارض معه حول التكيف، أو بالأحرى حول وجهة هذا التكيف: بدلاً من أن يتكيف ذلك الصنف مع البيئة، التي، ومن جهتها، لا تتوقف عن التحول، كما لو أنها بيئة الاستجداد اذا صح التعبير.. بدلاً من ذلك، لا بد من تكييف البيئة معه. فلا يؤدي ذلك إلى "حكومة خبراء"، تأخذ على عاتقها قولبة الصنف البشري حسب بيئته بالانطلاق من كون ذلك يدخله التاريخ، أو لا يسمح للتاريخ أن يتعداه، بل يؤدي إلى أن يأخذ الأفراد على عاتقهم جعلَ تلك البيئة بيئتهم بالاستناد إلى الفطنة الجماعية. في هذه الجهة، لا يرى ديوي أن التأخر، وحين يوجد، هو سمة بشرية سلبية، على العكس، هو ظرف التشييد الثقافي بالمعنى الرحب للعبارة.

تشدد ستيغلر على ان النيوليبرالية التي انتصرت هي نيوليبرالية ليبمان، التي جعلت من التكييف محور الحكم أينما كان، في كل الأوساط، حيث تأمر الأفراد به. وأمرها هذا، لا يقوم بصيغة "يجب أن تتكيفوا" فحسب، لكن، قبل ذلك، بصيغ أخرى، في مقدمتها أن "التغير مهم ومفيد". فمن لا "يتغير" - أي أنه في حصيلة تغيره، يتكيف - فهو متخلف، أو أحمق، أو متقادم، سرعان ما يرميه التاريخ بعيداً منه، من بيئته. في النتيجة، التكيف مطلوب، ومفروض، فمن دونه، لا يعود الأفراد أفراداً، إنما يصيرون، وفي عيون سلطاتهم، بمثابة برابرة، لا بد من إعادة قولبتهم، أكان بالتأديب أو العنف المباشر. فتمام التكيف، وخاتمة مقتضاه، هو القتل. ولهذا، تشدد ستيغلر على أن الانتهاء منه، من خطابه، يمر بالضرورة في تحرير "الحي"، كل حي، من القبض عليه. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024