"مياومة" لمحمد فرج: هايكو محرّف لعاهات عامِل معاصر

شادي لويس

السبت 2020/12/12
"بين المقعد والسرير، يقضي العامل معظم حياته. ساعات طويلة على المقعد، يفكر في السرير، وساعات في السرير يحاول أن يمد جسده كي يهرب من أثر المقعد. على المقعد بأكتاف مضمومة ومحنية إلي الأمام، سيتغير شكل عظام الجسد، تنضغط الفقرات، تلتهب الأعصاب، تنسد، تتكون بؤر ألم لن تفارقه في ما بعد، سيصاب في البداية بأوجاع في الرقبة، ثم في الكتف، ثم في الظهر، حتي يصل الوجع لأصابع القدم".

جالساً على المقعد أقرأ تلك السطور، خريطة لأوجاع الأجساد المتآكلة، بالوضع الموصوف نفسه، بينما أشعر بخطوط الألم المزمنة تتقاطع على الرقبة وبين الكتفين وأسفل الظهر، مثقلًا بآثار ليلة سابقة بحث فيها الجسد، عن وضع على السرير، يمكّنني من "ترتيب أجزاء الجسد التي كانت محبوسة على المقعد"، لكن بلا جدوى.

يقدم محمد فرج في "مياومة: هايكو عامل معاصر"، كتيب إرشادات، موجهاً لـ"الزملاء" كما يشير الإهداء، تتصدره صلاة صباحية أو قانون إيمان للعجز، وقاموس صغير لعاهات عمال الياقات البيضاء المعاصرين، توجيهات تشغيل لتحويلها إلى مرافق عامة، لائحة غير معلنة بألعاب سحرية لتمرير ساعات العمل و"صناعة جسر طويل فوق الكارثة". مسودة أولية لرواية خيال علمي، تدور حول ماكينة لتحويل السأم في أجساد العمال إلى طاقة، يبيعها صاحب العمل إلى العمال أنفسهم، ومعها دليل مبسط ودقيق لآلام العظام وتاريخها الشخصي، منذ توقف البشر عن تسلق الأشجار، وفي الخاتمة سجل شبه شعري بأحلام الشبق عن علاقات ثلاثية وقطارات تجرى على سطح المياه، بين ماء وماء، أحلام لا تتعلق بتغيير الواقع "بل عن مساحة لعيش لا يمكن لها أن تحدث".

الزملاء الذين يكتب لهم فرج، ليسوا فئة ما من قراء محتملين أو شركاء واقعيين في حياة سابقة أو حالية، بل نداء مفتوح للجميع، في واقع انتفت فيها كافة العلاقة خارج نطاق العمل، أو ما يشبه العمل، أو ما يحكمه منطق العمل. عمال "مياومة" ليسوا كادحي الأدب الكلاسيكي، اليدويين المعدمين، ولا من موظفي كافكا الضائعين في متاهات البيروقراطية الغرائبية لمطلع القرن الماضي، بل عمالة القرن الواحد والعشرين، المهنيون الجالسون أمام الشاشات، الموظفون الذين تتحكم في حياتهم شبكة من الخيوط الهشة وغير المرئية، والحكايات المخيفة عمن مزقوا تلك الخيوط. العامِل الذي ينتظر دائماً رسالة على هاتفه أو في بريده الإلكتروني، لتأكيد وجوده أو الاعتراف بقيمة ما له، و"الانتظار لا ينتهي، فقط يبدأ ويستمر". عالم العمل المعاصر، حيث لم يعد على المديرين الصراخ، فالصوت مزروع في الداخل. أما تلك الزمالة التي يتم استدعاؤها من البداية، فلا تعني شيئاً في الحقيقة، فحين تسقط جثة الزميل، يلقي العامل ومن معه سجائرهم المطفأة بجانبه، ويعودون للعمل.

ليس هؤلاء عمالاً بالمعني المتداول للكلمة. يدرك الكاتب ذلك ويؤكده طوال الوقت، لكنه يكشف أمامنا أيضاً تلك التشابهات بين حدبات الظهر لعمّال البناء، الذين شيدوا مدينته في الماضي، وبين حدبة ظهره هو. كتب الإيطالي، فرانكو بيفو، عن العمال أنفسهم، عمّال المعلومات، العمّال الفرادى من دون طبقة عاملة. لكن، وإن كتب هو "الروح في العمل"، فجلّ ما دوّنه محمد فرج في كتابه القصير هو عن الجسد في العمل. فقليلٌ هو ما بقي من الروح حتى يمكن استقصاؤه.

الإشارة إلى الهايكو ليست مخادعة بالكامل، فالنص المفتقِد إلى نسق أو بُنية واضحة أو قالب يسهل تصنيفه، والمتأرجح بين السرد والشعرية البسيطة المباشرة، وهو ينوع بين الفقرات الطويلة والنبذ المكثفة، تربطه شبكة من خيوط مضمرة بالقالب الياباني الأكثر شهرة. يعتمد "مياومة" على بساطة الألفاظ نفسها المستخدمة في الهايكو، الجُمل القصيرة، والوصف العفوي، والأهم من ذلك الإيقاع الهادئ، بل وربما الرتيب، لحركة الزمن ممثلة في دورة فصول السنة.

يوجز فرج حياة كاملة في سبعين صفحة، هي طول الكتاب، حياة هي دورات قصيرة ومتكررة لا يصعب اختصارها. وكما ينطبع الهايكو بالإشارة إلى عناصر الطبيعة، فإن "مياومة" يبث تيماتها بين صفحاته. ليمونة معلقة تسقط وتتعفن في هدوء، شجرة وحيدة في حديقة مغلقة، أوراق خريفية تتكوم على الأرصفة، أشجار مليئة بالخفافيش، وشجرة وراء نافذة يراها المرء بالصدفة. حتى الصور الفوتوغرافية بالأبيض والأسود، المتناثرة في ندرة بين صفحات الكتاب، فتظهر الأشجار في معظمها، لا كرموز ولا كرسوم توضيحية، بل كعلامات قائمة بذاتها. نصوص بصرية تتوازي مع المكتوب، لا تسعى إلى تفسيره أو شرحه، بل تضيف طبقة إضافية من الصمت، في عالم الخُرس، فيما "الكلام الساكت لا يتوقف عن السيلان"، بين طبقات كثيفة "يعزل العامل في كل طبقة منها كلاماً يريد أن يقوله".
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024