منير الخولي... "تنين الطرب" الذي لا يطويه الزمن

حسن الساحلي

الأحد 2019/08/18
خلال أزمة النفايات الأخيرة، تداول كثيرون فيديو يظهر فيه منير الخولي(الملقب بـ"تنين الطرب") مؤديا أغنيته "هيك حنشتغل" التي تصف الحياة خلال الحرب الأهلية، بطريقة تعبّر على حاضرنا. كانت تلك الأغنية واحدة من أغانيه الأولى التي سجلها في منزله في الولايات المتحدة، مشكلاً منها ألبوماً صار يرسله إلى أصدقائه الذين أحبوا الأغاني وساعدوه على بيع نحو 200 نسخة بطريقة تبدو غريبة اليوم، حيث كان يرسل الكاسيت عبر البريد للشخص الذي يطلبه، بينما يبعث المشتري الثمن في ظرف ورقي بالطريقة نفسها.


من اسباب نجاح تلك الألبومات، بالإضافة لأسلوبها الساخر، أنه خلال تلك الفترة لم يكن غناء الروك مع كلمات عربية سائداً وكان يقتصر على الإنكليزية. لاقت حفلة الخولي الأولى في جامعة BUC /LAU، نجاحاً ما دفع  تلفزيون لبنان لنقل حفلاته اللاحقة بشكل مباشر. لكن الحرب في لبنان منعت الشاب من اللحاق بأحلامه، وصار يؤدي حفلة واحدة فقط كل سنتين عند مجيئه لزيارة أهله، خوفاً أيضاً من خسارة إقامته القانونية (غرين كارد) في أميركا.


في العام 1994 وبعد انتهاء الحرب، قرر الشاب العودة نهائياً والتفرغ للعمل الموسيقي. لكن لسبب أو آخر، لم يحصل على ما أراده، بدت النجومية الفعلية بعيدة المنال، رغم بعض المحاولات الجدية التي قام بها من وقت لآخر. استمر كظاهرة غريبة عن السائد ومحصورة في مهرجانات معينة، يؤدي فيها من فترة إلى أخرى، قبل أن يتوقف نهائيا عن العمل في لمجال عام 2010.


لكن مع ذلك، لم تتوقف حياة أغانيه، فمنذ فترة قام "حبيبي فانك" (يانيس شتوردز) المعروف بترويجه موسيقى الفيوجن التي كانت رائجة في السبعينات والثمانينات في العالم الثالث، بإعادة إنتاج بعض أعماله، وقبله يانيس نشر فريق "مين" المتأثر به، أغنيتين له من ألبومه الأخير ضمن مجموعة أغاني تحت عنوان "بندورة"، كما أن أغنيته "هيك حنشتغل" التي تتحدث عن النفايات مرشحة دائماً للعودة إلى الأضواء.

نقدم هنا شهادة لمنير الخولي يتحدث فيها عن تجربته في عالم الموسيقى وسبب تعثره، تشكلت هذه الشهادة من أجوبته على أسئلة طرحتها "المدن" عليه، وقد أعاد كاتب السطور صياغتها لتشكل سرداً متسقاً:


عندما بدأت العمل في مجال الموسيقى أواخر السبعينات، كان هناك أكثر من دزينة فرق لبنانية تؤدي أغاني معروفة بالإنكليزية. جزء من هذه الفرق بدأ في الميوزيك كلوب التابع للجامعة الأميركية، مثل بيروت بليس باند التي كانت قد سبقتنا إلى هذا المجال بسنوات، وتعتبر من الجيل الأول الذي شكل فرقاً موسيقية لبنانية لتحل مكان الفرقة الأجنبية التي كانت تعزف في الفنادق والأندية الليلية منذ الخمسينات.

أنا لم أكن بعيداً عن هذه الأجواء، كنت يومها مراهقاً مفتوناً ببوب ديلان، وأعتبر كل ما يؤديه شعراً خالصاً. على طريقته، وقفت وحيداً مع غيتار آكويستيك، وغنيت في أحد أندية شارع بليس (آنكل سام) أغاني قمت بتأليفها، وتتحدث عن الحب والعلاقات. كانت المرة الأولى التي أغني فيها أمام الناس، ومن الجيد أن المكان كان أقرب إلى الـpubs اليوم حيث تغني والناس يأكلون ويتكلمون مع بعضهم بعضا، ما يقلل الضغط عليك. بعد فترة تعرفت على خالد الخضيري، عراقي كان موهوباً جداً على الغيتار، وكان يؤلف ما يشبه السمفونيات الصغيرة وحده، ما يشعرك أنك أمام فرقة كاملة. ما كان ينقصه هو تركيب ميلودي على كل هذه الأكورات. بدأنا بالعزف سوياً في المكان نفسه، لكن هذه المرة تحت خانة "إنسترومنتال ديو آكويستيك غيتار". كل واحد كان يجيد ما لا يجيده الآخر. استطعت معه من تنمية قدراتي الموسيقية، ما مكنني لاحقاً من العمل مع فرقة موسيقية كاملة.

بدأت خلال تلك الفترة بالإنتقال إلى الغيتار الكهربائي، الذي تمتلك أوتاره قدرة على التمدد والحركة والتفاعل مع الكهرباء لإخراج أصوات صاخبة و"ملغومة". لا عجب أن هذه الآلة أزاحت الجاز عن عرشه وتحولت في الولايات المتحدة إلى الآلة الأكثر شعبية. صرت مغرماً بموسيقى الهيفي والهارد روك وبفرق مثل ديب بيربل، وبينك فلويد، وعازفين مثل ليد زيبلين وسانتانا.

عندما بدأ الحصار الإسرائيلي على بيروت، خافت عائلتي عليّ وأرسلتني إلى الولايات المتحدة كي أبقى إلى أن تتضح الأمور في لبنان. شعرت بالغضب والضيق من القدر الذي أوصلني إلى هذا المكان. كنت أريد العودة رغم كل ما يحصل، فأنا بيروتي ويجب أن أعيش في بيروت، وليس في أي مكان آخر. لم أتأقلم مع الحياة الأميركية وبقيت على الهامش، مع أن المدينة التي كنت فيها (بيركلي – كاليفورنيا) جميلة جدا، ومتحضرة، وتعتبر من الأكثر انفتاحاً ودفاعا عن قضايا العالم الثالث.

حاولت لفترة دراسة الموسيقى في الجامعة لكني كرهت طريقة التعليم التقليدية على اللوح، وجدتها منفصلة عن الواقع ومعقدة والهارموني، تبدو فيها أصعب من الرياضيات، فتركت بعد أول فصل. عملت في مهن مختلفة، بائعا متجولا وفي المطاعم، قبل أن أستقر في النهاية على سيارة تاكسي وجدتها الخيار الأنسب بسبب ما تتيحه من حرية. المرة الوحيدة التي عزفت فيها هناك، كانت مع شاب تعرفت عليه بالصدفة، اسمه روجيه فخر وهو صديق لعصام حاج علي ومن مؤسسي فرقة "الأرض" التي كنت أحبها أيضا وأجدها متقدمة عن باقي الفرق.

بقيت منتظراً الغرين كارد (الإقامة الدائمة والخطوة الأولى للحصول على الجنسية) بينما كان يتأجج في داخلي حقد تجاه السياسيين والمسلحين في لبنان، الذين أجبروني على الهجرة إلى مكان غريب لا انتمي اليه. ومع أني كنت أكره الأغاني العربية وأجدها بليدة وبطيئة ومفرطة بهدوئها، صرت أطلب من أصدقائي أن يرسلوا لي كاسيتات فيروز وأم كلثوم وصباح، وبدأت أسمعها كأني أكتشفها للتو.

سمعت في الفترة نفسها ألبوم "أنا مش كافر" لزياد الرحباني الذي أعجبني كثيراً، ذكرني أني أستطيع أنا أيضاَ أن أقول رأيي عما يحصل كأي مواطن آخر. لم أسمع مغنياً يستخدم روح النكتة بتلك الطريقة سابقاً، مع ألحان ترتدي الكلمة وتوازيها. قررت القيام بالأمر نفسه لكن على طريقتي، أي مع موسيقى الروك التي أحبها، وبكلام لبناني محكي مختلف عن اللغة البيضاء التي يفضلها الرحباني، وبنسختي الخاصة من السخرية.

كأن زياد أعطاني الضوء الأخضر، وذكرني أنه في حال كنت أريد أن أقول شيئاً، أستطيع ذلك بحرية ومن دون خوف من السجن، خاصة أن الوضع يومها كان أفضل من اليوم من هذه الناحية. بدأت بالكتابة واشتريت ماكينة تسجل أربعة Tracks، إن تحايلت عليها يمكنك أن تسجل أكثر، مثلاً تضع غيتار سولو على تراك، وغناء خلفي على اخرى، وعلى الثالثة إيقاع، ثم تنسخ الثلاثة على تراك واحدة، فيصبح عندك ثلاث مساحات فارغة يمكنك استعمالها من جديد. كنت أضع في الأغنية الواحدة 5 أو 6 آلات، وأسجل على كاسيت وليس شريطا. ثم عند انتهائي من ألبومي الأول، صنعت عدة نسخ منه في المنزل وسألت أصدقائي من يريد أن يسمع ألبوما جديدا يتحدث عن الحرب والمجتمع. سعّرت الكاسيت 5$ هي كلفته بالإضافة للنقل من أميركا إلى لبنان عبر البريد. بعت ما بين 150 و200 ألبوم بهذه الطريقة.

عندما عدت إلى لبنان في العام 1987، كنت معروفاً في عدد من الدوائر. أخبرني الشباب أن كثيرين أحبوا الكاسيت ويجب أن أقدمه بحفلة. لم يكن لديّ سوى شهر واحد لأعود إلى أميركا من أجل الغرين كارك. تكلمت مع عبود السعدي وإميل البستاني اللذين وافقا مباشرة، وتعلما الأغاني بسرعة (أعضاء فرقة Force يومها التي، كانت ناشطة في الفترة نفسها لكن باللغة الإنكليزية) ثم نسخت من الكاسيت 500 نسخة وضعناها على الباب وفي مكتبة أنطوان وأمكنة أخرى، بعد ان قررنا أن تكون الحفلة في جامعة BUC ،LAU اليوم.

قدمت حفلتين في ليلتين متتاليتين وقد أحبهما الجمهور كثيراً لأنها كانت المرة الأولى التي يستمع فيها إلى شيء يعيشه بشكل يومي، كالحواجز والميليشيات والكهرباء، في قالب مضحك، وموسيقى يحبها ولم يألفها سابقاً بالعربية. ثم بعد عام عدت مجدداً وقدمت حفلة ثانية لكن هذه المرة في الويست هول - الجامعة الأميركية، بنفس الريبرتوار وبعض الأغاني الإضافية، أيضاً مع جمهور سعيد واستجابات إيجابية. أصبحت الفرقة متكاملة أكثر وتحسنت الموسيقى، وأصبح هناك تفريدات أكثر ومقاطع صاخبة تعطي زخما للغناء. كنت أحب أن أدخل الغيتار الكهربائي في الأغاني ليعزف صولو جديد من نوعه كل مرة. خلال تلك الحفلة أتى تلفزيون لبنان وصورنا وعندما عدت في المرة الثالثة إلى لبنان، أخبرني الشباب أن الحفلة اعيدت أكثر من مرة على التلفاز كاملة.

الحفلة الثالثة كانت في BUC وكنت اكتسبت ثقة أكبر عندها، صرت أشعر بأني من المخضرمين، وبإمكاني أن أطلق النكات مع الجمهور وأضحك على المسرح. ثم سافرت للمرة الأخيرة لأعود نهائيا في العام 1994 بعد أن أخبرني أهلي أن الحرب قد انتهت. فكرت أني سأحول ما فعلته بشكل عابر إلى شيء جدي، وسأكون أقرب إلى الناس ولا بد ستأتيني أفكار أكثر. اشتريت ماكينة ديجيتال أكثر تطوراً من الأولى، لتحسين نوعية التنفيذ، وأتيت بها إلى لبنان، محوّلا غرفتي إلى استديو تسجيل.

لكن لا أعرف ما الذي حدث تحديداً وأدى إلى تعطلها. تزامن ذلك مع غارة إسرائيلية من النوع الذي يوقف أجهزة الرادار في المنطقة التي تستهدفها وأعتقد أنه السبب. أخذت الماكينة إلى الشركة وبقيت هناك لستة أشهر من دون أن يتمكنوا من تصليحها. ثم أخذتها إلى رجل يصلّح على يده لكن أيضاً لم يفلح. في هذه الاثناء كان عندي مجموعة أغاني ألفتها ولا أعرف ماذا أفعل بها. تعرفت على شاب يعمل مهندس صوت في استديو زياد الرحباني، كان سمع أغاني الألبومات السابقة وأحبها وأقنعني بتنفيذها بشكل أكثر احترافاً وان أستعمل عازفين حقيقيين على الآلات. أما من ناحية النقود فقال إنه سيؤمن لي عملا في مجال الدعايات يساعدني على تمويل المشروع.

بقيت 6 سنوات وأنا أعمل في مجال الدعايات وشارات المسلسلات، ثم لاحقا مع أي استديو يطلب عازفاً على الغيتار. عندما وصلنا إلى مرحلة التوزيع وطبع الكاسيتات، صرنا يومها في العام 2003 أتى ميشال الفتريادس وطلب المشاركة. وجد الأغاني جميلة وجديدة مع أنها مكتوبة في العام 1995. أخرج لي فيديو كليب، ثم طلب مني العزف في الميوزيك هول، كان تفكيره من ناحية شخصيتي وأدائي في مكان آخر. أراد أن يلبسني ثوبا اصفر، ويجعل شكلي ممسرحاً لأن "الأغاني وحدها لا تكفي". كنت أقول له عليّ العودة إلى الشارع والجامعات حيث الجمهور أكثر انفتاحا على هذه الموسيقى، لكنه لم يقتنع. وفي النهاية لم نصل إلى شيء، وتوقفت عن العزف في ميوزيك هول بعد سنة من العذاب حتى آخر الليل.

من ناحية اخرى بقيت اشتغل في مجال التلفزيون والإعلانات وشارات البرامج، ثم شاركت في العزف مع فريق برنامج ستار أكاديمي الذي سافرت معه مرات عديدة. عملت أيضا مع زياد الرحباني وسافرت معه ومع فيروز أكثر من مرة. وبقيت أسجل في استديوهات لأني كنت من القلّة التي تجيد عزف الموسيقى اللاتينية. لكن الوضع صار متعباً في النهاية، لأن الناس لم تعد تدفع، خاصة في مجال الإعلانات والتلفزيون حيث يعيدون الحجّة نفسها وهي أن السبونسر انسحب من المشروع! فقررت التوقف نهائياً عن العمل في مجال العزف.

أما من ناحية الغناء، كنت لا أزال أشارك في حفلات تقام سنوياً خلال مهرجانات الحمرا، ولسبب أو آخر، كان ينظم مهرجان في الأونيسكو إما عن الحرب أو عن السلام كل سنتين، فيتصلون بي كي أغني هناك أمام جمهور كبير. يتحمس الناس خلال الأغاني لأن الوضع بقي كما هو، لم تتغير المشاكل في لبنان. لكني بدأت أشعر بالملل بعد سنوات. صرت أجد الأغاني سخيفة، ولا جديد لأقدمه، فقدت الحماسة التي كانت موجودة في السابق للتغيير. فهمت أن هذه البلاد لن تتغير، فالسياسي يعيش 200 عام بينما تعيش انت 60 عاماً. صرت حاقدا على المواطنين أيضاً لأنهم لا يريدون التغيير وهم راضون بأوضاعهم رغم كل ما فعله أقطاب السياسة بهم. دائماً يستطيع اللبنانيون تحويل المشكلة التي يعانون منها إلى نكتة والتأقلم مع الوضع السيئ للبلد. أعرف أن هناك جيلا جديدا يريد التغيير لكني لا أعرف لغته، ولن أستعمل كلمات معينة مثل "برو" كي تقول الناس أني لا أزال شاباً ومع روح العصر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024