عندما كانت بيروت "جوهرة التاج".. ورسم مرفأها إبراهيم سربيه

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2020/08/11
ترك الرسام مصطفى فروخ كتابات عديدة تشهد لبدايات حركة الفن التشكيلي في لبنان في القرن التاسع عشر وتطوّرها في القرن العشرين، منها مقالة صدرت بعد رحيله في 1957 في كتاب حمل عنوان "الفن والحياة". في هذه المقالة، تطرّق الرسام أولاً إلى تجارب عبد الله زاخر وكنعان ديب ويوسف سمعان "الذين كانوا يصوّرون في أعالي الجبل"، ثم انتقل بحديثه إلى رسام بيروتي يُدعى إبراهيم سربيه.

كتب فروخ في وصفه لهذه الرسام: "بعيداً على شاطئ بيروت الرملي الجميل حيث تأتي الأمواج المتتالية لترتمي سكرى على أقدام بيروت، كان يقف هنالك فتى نحيل كثير الأناقة، يقف الساعات الطويلة من يومه، يتأمّل هذا البحر وتلك الأمواج من غير أن يملّ، بل يبدو كأنه مأخوذ مسحور بما حوله، وكان كلّما تقادم عليه العهد ازداد ولهاً، واشتعل قلبه هياماً بتلك الطبيعة وهذا الجمال الذي لا حد له. هذا الفنان الشغوف بالطبيعة والذي يحمل قلمه ولوحته يرسم ما يراه من جمال، كان عرضة لانتقادات الناس وتقولاتهم لولهه بالفن. وما كان، بربّك، مفهوم الفن عند الناس يومذاك، والفن هو اليوم وبعد تقدم العالم، كما نرى من تقدير ومنزلة؟ لكن فناننا ما كان ليعبأ لما كان يتناوله به الناس من نقد وغمز، انه قد فتح له من هذه الطبيعة ومن جمالها، فليفعل الله ما يشاء. واستمر الفتى يلون اللوحات العديدة في جمال هذه الطبيعة وتلك الأمواج المتضاحكة طوراً على الرمال وطوراً تنكسر على الصخور، أو هو يصوّر هذا البحر تسبح الفُلك فيه حيث تشاء". 

يواصل فروخ: "هذا الفتى النابغ هو إبراهيم سربيه البيروتي (1850)، الشاب الذي زيّن بعض بيوتنا بآثار ريشته الرقيقة وأسلوبه الأنيق، فكان حديث أهلها وبيوتها. وعندما قدم امبراطور ألمانيا غليوم الثاني لزيارة بيروت، لم يترك الفتى إبراهيم هذا الحدث التاريخي يمر من غير أن يسجله بريشته المرهفة، فترك لنا لوحة كبيرة تمثل مرفأ بيروت مزداناً بالأعلام، غاصاً بالجماهير تملأ قطع الأسطول الذي واكب العاهل العظيم، ثم بدت الجماهير على الأرصفة تمر بقربهم بعض العربات تجرها الخيول وتحمل المتفرجين وهم بزيهم القديم. وكانت له صور هيئة ومناظر، لكنه لمع بتصوير البحر والمراكب. كان فن سربيه دقيقاً بعيداً في الدقة، أنيقاً كل الأناقة، كثير الملاحظة والاحساس، ترافقه مقدرة عجيبة في إبراز الألوان والأضواء والشفافية وغياب اللون القاتم، وامتاز باهتزاز الماء وانعكاساته، مما يذكرنا بلوحات فنان البندقية الأشهر كاناليتو الذي تحتل لوحاته اليوم أعظم متاحف العالم، وهي موضع دهشة وأثمانها تبلغ عشرات الألوف من الجنيهات. أما لوحات فنّاننا سربيه البيروتي، فهي تستقرّ في أعماق المجهول وتحتلّ زوايا الظلام".

لا نعرف من أعمال هذا الرسام اليوم إلا عدداً قليلاً للغاية من اللوحات، وهي لوحة تمثل بعلبك، وقعها باسمه باللغة العربيّة، وذكر تاريخها بحسب التقويم الهجري 1312، أي بين 1895 و 1896. ولوحة استقبال إمبراطور المانيا غليوم الثاني في مرفأ بيروت التي تحدّث عنها مصطفى فروخ، وقد وصلنا منها أربع نسخ موقعه كذلك بالعربية مع ذكر تاريخها بحسب التقويم الميلادي 1899. إضافة إلى لوحة غير موقعة تمثل الواجهة البحريّة لرأس بيروت، وهي غير موقعة، غير ان اسلوبها يسمح بنسبتها إليه بشكل شبه مؤكّد. تتميّز لوحة استقبال إمبراطور المانيا غليوم الثاني بموضوعها التاريخي في الدرجة الأولى، وتقدّم وثيقة تشكيلية تُضاف إلى الوثائق الفوتوغرافية العديدة التي التقطت خلال هذه الزيارة. ونقع على مجموعة كبيرة من هذه الصور في كتاب "بيروت والسلطان" الذي أصدرته منشورات "أرض لبنان" منذ سنوات. وهو مجلد فني يحوي شروحاً وافية من توقيع سوسن آغا قصاب وخالد تدمري، مع مقدمة وضعها المؤرخ البريطاني فيليب مانسل.

في اللوحة التي أنجزها إبراهيم سربيه، يظهر مرفأ بيروت مزداناً بالأعلام العثمانية والألمانية، وبعض الأبنية المحيطة به. ويظهر يخت الإمبراطور والبوارج المرافقة راسية في هذا المرفأ، كما تظهر جموع المشاة التي قدمت لحضور حفلة الاستقبال، كما وصفها فروخ. أقيم هذا الاحتفال في عهد السلطان عبد الحميد الثاني الذي جعل من بيروت "واجهة للنظر"، بحسب تعبير فيليب مانسل، وعندما زارها الإمبراطور الألماني غليوم الثاني عند عودته من الحج في فلسطين، أبدى اعجابه الشديد بهذه "الواجهة"، ووصفها بـ"الجوهرة في تاج السلطان".

شهدت بيروت تطوراً كبيراً بين العامين 1832 و1841، وهي السنوات التي خضعت فيها بلاد الشام لحكم إبراهيم باشا المصري، ابن محمد علي باشا، باني مصر الحديثة. شمل هذا التطور سائر المرافق العمرانية والإدارية، وكان من نتيجته نمو عدد السكان الذي بلغ خمسة عشر ألف نسمة. استمر هذا التطور بعدما تمكنت الدولة العثمانية من استعادة سلطتها على بلاد الشام، وعظم شأن بيروت إثر انتقال تجارة الإفرنج إليها، وازداد عدد سكانها حين لجأ الكثير من المسيحيين إليها هرباً من المذابح التي تعرضوا لها في جبل لبنان ودمشق خلال أحداث 1860. وعلى إثر هذه الأحداث الدامية، أُعطي جبل لبنان وضعاً إداريّاً خاصاً من طريق إعلانه متصرفيّة ممتازة تُدار محليّاً بموجب بروتوكول وُضع موضع التنفيذ الفعلي العام 1864. في المقابل، عمدت الدولة العثمانيّة إلى تعديل التقسيمات الإداريّة في بلاد الشام، وألحقت مدينة بيروت بلواء صيدا المؤلّف من هاتين المدينتين ومعهما صور وبلاد بشارة (جبل عامل).

في العام 1887، جعلت السلطة العثمانية من بيروت عاصمة لولاية حملت اسمها، وغطت هذه الولاية مساحة لا تقل عن عشرين ألف كيلومتر مربع تمتدّ من الإسكندرونة إلى عكا. تحوّلت بيروت سريعاً إلى "عاصمة إقليمية عصرية" بحسب فيليب مانسل، وبات مرفأها "المرفأ الرئيسي على شرق البحر الأبيض المتوسط". تضاعف عدد سكان المدينة بسرعة، وشُيّدت فيها الكليات الأميركية والفرنسية إلى جانب العثمانية، فأضحت "ينبوعاً للثروة والتقدم والتعليم"، كما قال واليها اسماعيل كمال في العام 1892.

في صورة فوتوغرافية تعود إلى 1886 على الأرجح، يظهر مرفأ بيروت قبل توسيعه، ويظهر السدّ الذي أقيم في عهد إبراهيم باشا المصري، مع دائرتي الحجر الصحي والجمرك. تسابقت الدول الأوروبية للحصول على امتياز توسيع هذا المرفأ وتطوير آلية العمل فيه، ورسا هذا الامتياز على المدعو يوسف أفندي حبيب مطران في صيف 1887. هكذا تأسست شركة حملت اسم "الشرطة العثمانية لمرفأ وأرصفة ومستودعات بيروت"، وكان مركزها في بيروت وإدارتها في باريس. وعمدت هذه الشركة على تطوير المرفأ، وأتمت مهمتها في نهاية 1892.

يحوي كتاب "بيروت والسلطان" مجموعة من الصور التي توثّق مراحل أعمال ورشة البناء هذا الموقع، كما يحوي مجموعة أخرى تصور الميناء بعد تطويره عند استقبال الإمبراطور غليوم الثاني وزوجته الإمبراطورة أوغستا فيكتوريا، وتظهر في عدد من هذه الصور الدارعات الألمانيات الثلاثة التي رافقت يخت الإمبراطور، وهي الدارعات التي نراها في لوحة إبراهيم سربيه راسية في حوض مرفأ بيروت.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024