التلميح واللبيب من الإشارة

روجيه عوطة

السبت 2021/04/10
لقد مر وقت طويل على اخر مرة سمعت فيها مديح لكتابة ما من باب أنها كتابة لماحة. فلطالما كان التلميح من سمات الكتابة الجيدة، بحيث أنه يمدها، وحين تنطوي عليه، بقدر من الأهمية. وهذا، لأنه، وعلى الاغلب، إشارة إلى تمكن ممارسي هذه الكتابة من اسلوبهم، أو بالأحرى من قولهم عبرها. إذ انهم، وفي أثناء حديثهم عن موضوع ما، يقدمون على الاشارة إلى موضوع ثان من دون أن يتكلموا عنه مباشرة.

فتلمحيهم هو بداية هذه القدرة على الاشارة إلى موضوع معين خلال الحديث عن غيره لتكون إشارة بسيطة بلا أن ينقص ذلك من وقعها، بل، وعلى العكس، يجعلها عليه. فالتلميح هو أيضاً وقع هذه الاشارة على القراء، الذين، وبدورهم، يفهمون منها، تماماً، كاللبيب الذي، وفي المقولة عنه، "من الإشارة يفهم". التلميح يستلزم صلة بين ممارسي الكتابة والقراء قوامها ان الطرف الاول يلمح، أي يقدّم تلميحة في نص يشتمل عليها، والطرف الثاني، وفي أثناء قراءته هذا النص، يفهمها من جراء لبابته. بالتالي، الصلة هنا ليست مجرد نسخة عادية من صلة مرسل-متلقٍ إنما هي نسخة ذكية منها اذا صح التعبير. فالمرسل يبعث برسالة يطويها على تلميحة، والمتلقي، وفي وقت اطلاعه على الرسالة، ينتبه إلى ما تنطوي عليه، كما لو ان الرسالة، في سياق صلتهما الذكية، ليست المحور سوى لأن التلميحة تحضر داخلها. في النتيجة، صلة الطرفين، وبما هي نسخة ذكية من صلة مرسل-متلقٍ، لا تدور حول الرسالة، انما بما يحضر فيها لكي يشير إلى أمر ما لا يتعلق بمحتواها، بل إنه يصرف منها إلى سواها.


انها صلة تجعل من الرسالة، من محتواها، سبيلاً إلى التلميحة، من دون ان يعني ذلك ان هذا السبيل لا قيمة له بالمطلق. على العكس، القراء، ولكي يبلغون التلميحة، يطلعون على كل النص، يقرأونه، وحين يجدونها، لا يتركونه جانباً، ولكن، يستكملون قراءته. فالتلميحة تجعلهم يستمرون في القراءة، كما لو أنهم، ومن خلالها، يحاولون محورة النص حولها، اي حول ما يخرق محتواه. فعلياً، التلميحة بعينها لا تُقرأ، إنما يُقرأ المحيط بها، اما، هي، فتُفهم بطريقة سريعة، بلا ان يحتاج فهمها هذا إلى وقت شبيه بوقت القراءة. فالتلميحة تومض في المقروء، يفهمها اللبيب، ثم يستمر في ما كان يفعله قبل وميضها هذا. بالطبع، وميض التلميحة يبدل في قراءته للنص أمامه، يجعله يلاحظ جوانب فيه لم يلاحظه قبلها. ولكن، ماذا يحصل حين يموت التلميح؟

يصح الاعتقاد ان تلك الصلة بنسختها الذكية بين ممارسي الكتابة والقراء تتعطل، بحيث أن الطرف الأول لا يعود يطوي رسالته على تلميحة، بل يمحورها حول محتواها فقط. وهذا، قبل أن يبعث بها إلى الطرف الثاني، الذي يتلقاها من دون أي لبابة، فتكون عندها-ومع تحبيذي للجانب الحيوي لهذه السمة- سطحية. وحين تكون الرسالة كذلك، فهي لا تومض ولا توشك على الاعتام، بل إنها تبقى مضاءة، "مشعشعة"، فلا تتطلب من القراء اي إنارة منهم، بل ان يكتفوا بتلقي محتواها، الذي لا يعود يشير سوى إلى ذاته. ومن أشكال استواء الرسالة، أو  النص على هذا المنوال هو أنه يصير، لا مباشر، إنما التصاق بموضوعه من دون أي مبارحة له. وهذا الالتصاق يجعل منه تأليفاً وتدويراً لخطبة يحملها مرسلوه، أو بالأحرى تحملهم الى درجة أنهم لا يستطيعون النظر سوى إليها، كما لو أنها "تستلبسهم". من هنا بالتحديد، يموت التلميح، الا ان ثمة شيئاً مختلفاً يولد مكانه، اي شكل للقول لا يبغي القول، شكل للقول يكابر على القول... يموت التلميح، ليولد التلطيش! وعن هذا الشكل، يتبع في حديث مقبل. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024