النظام إن تغذّى على الثورة

روجيه عوطة

الأربعاء 2019/11/06
حين يوجه النظام اللبناني المنصرم دعوة إلى الثوار من أجل النقاش معه، يبدو أنه يريد تحويل إثبات سقوطه من قبلهم إلى موضوعٍ، يتناوله واياهم. فبالاستناد إلى النقاش، يقول إنه على مسافة حيادية مما يسمى "أزمته"، وهذه المسافة تكفل له أن يعالج "الأزمة" بالتعاون معهم. وعلى هذا النحو، تكون ثورتهم بالنسبة إليه مجرد "مطالبة" من خائضيها بالمشاركة معه في الوقوف على "الأزمة"، مثلما تكون مجرد "مطالبة" باعترافه بأهليتهم لفعل ذلك. بالتالي، النقاش هنا ينأى به عن سقوطه، كما يعينه على تقديم حطامه على كونه "أزمة"، يتعرض لها، ولا شك انه "منفتح" أمام أي حلول مقترحة لتخطيها. فالثورة، بحسب منطقه النقاشي، تريد إنقاذه!

لكن هذا المنطق قد لا يجيء على شكل دعوة إلى مزاولة فعله، أي النقاش، بل الى مزاولة فعل محدد، وهو النقد. فثمة من يحث على "نقد النظام لإلقاء الضوء على مساوئه"، التي، ومن بعد أن يتعرف عليها، سيعمد إلى التخلص منها. بالتالي، لا بد أن يكون الثوار "نقاداً"، يدركون "مساوئه"، يعلنونها على مرآه ومسمعه، وعندها، يعلم بها، ويشرع في الانتهاء منها. في هذا السياق، الدعوة إلى النقد، وعدا عن كونها تبدي النظام كأنه يبغيه لكي يكون على بينة من ذاته، فهذه الدعوة تفترض أن النظام اياه، باعتباره ركاماً، هو موضوع للنقد. فالثورة تُدخل خائضيها في علاقة نقدية معه، علاقة أخد وردّ، تودي بهم إلى حضه على التحسن، الذي يستطيع الإقدام عليه بإرادته.

بالطبع، هذه العلاقة، وحين توجد، لا تجعل حطامه "أزمة"، بل تنفي قسمه الكبير وتظهر ضئيله على أنه "سيء"، ولا بد من الانتهاء منه، أو بالأحرى لا بد من الدفع إلى ذلك. وهكذا، يستمد النظام استمراريته من نقده، الذي يمده بتصورات عنه، وعندما تصله، سرعان ما يقر بها، ويأخذ حلها على عاتقه. فهذا النظام، ولأنه حطام، صار " ينبسط" بنقده لأنه يمدّه بأي تصور يغلّف به حطامه، "نعم، أنا نظام طائفي وفاسد، واصلوا قول ذلك لي، لكي تحضوني على الإقلاع عن هذه المساوئ"، أي "واصلوا قول ذلك لأنكم بهذا تصورونني وكأني لست حطاماً، لست ساقطاً، بل سيئاً، وبإقراري بسوئي، أعدكم بأنني لن أبقى هكذا". فهذا النظام يريد نقده لكي يشير به إلى أنه لا يزال معمراً ومرتفعاً، يريد نقده لكي يعمر ويرتفع به، الا أنه، ومهما حاول، يبقى ركاماً.

في المطاف عينه، قد تتقاطع الدعوة إلى النقاش مع الدعوة إلى النقد، فتحلان في أمر واحد، وهو الجواب على استفهام تلفزيوني، "ما هي اسباب ثورتكم؟". فعلياً، هذا الاستفهام التافه، وبطرحه، يظهر "أسباب" الثورة كأنها غير واضحة، أي لا يمكن الحسم في كون العيش قبلها بمثابة موقع لحدوثها أم لا، أكانت ظروفه تستدعيها أم لا. فاستفهام "ما هي اسباب ثورتكم؟"، الذي يطرحه الاعلامي، يعني "انا لا أشاهد أسبابها، فلتُشِر إليها"، وعندها، يبدأ تعداد هذه "الأسباب"، التي لا مبالغة في القول انها لا تنتهي، وبالتوازي مع تعدادها، النقاش حولها كـ"أزمات"، ونقدها كـ"مساوئ". وعلى هذا النحو، يصير الجواب جردة لعلامات السقوط، وليس إثباتاً له، وقبل هذا، يصير اظهاراً لها كـ"أسباب" لمن يدعي أنه لا يراها، لمن يفرض، ومن موقع سلطة الاعلام، إبهامها، كما يفرض كشفها له، فيقرر عندها أنه رآها، أم لا. فيُعلم الثورة بكونها مُلزَمة بالاشارة الى "أسبابها" لكي تكون "شرعية"، أي يزرع هذا الهاجس فيها: أن تواصل تبرير وقوعها، مرة تلو المرة.

في الواقع، كل ما يبغيه النظام، عبر دعوتَي النقاش والنقد، وعبر جمعهما في الجواب على استفهامه عن "الأسباب"، هو أن يوقف الثورة، ويحولها إلى دوران في رجائه، إلى دوران يولد علاقة معه، ويستمد منها شكلاً لركامه، شكل تغليفه. الا أن الثورة هي مغادرة من رجائه هذا، ومن هذه العلاقة معه، بحيث أن خائضيها يتركونه خلفهم على ركامه، ويثبتون سقوطه. يقولون "إنه ساقط"، ولا يتوجهون بهذا اليه، بل الى أنفسهم، وإلى بعضهم البعض. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024