في "مملكة آدم" لأمجد ناصر.. نبيّ بلا ديانة

المدن - ثقافة

الإثنين 2019/04/22
صدرت حديثاً عن منشورات المتوسط – إيطاليا، مجموعة شعرية جديدة للشاعر الأردني، أمجد ناصر، بعنوان: "مملكة آدم". في عمله الأحدثِ هذا، يُساجل أمجد ناصر، التراث الميثولوجي للجحيم، وسواه في الواقع، لكن من مهادٍ بانوراميةٍ أولى كبرى، هي أرضُ البشر، أو كما جاء في مقدمة الناقد والمترجم السوري صبحي حديدي للكتاب: هذه، المعاصرةُ على وجه التحديد، شهدت وتشهدُ أفانينَ جحيمٍ لا تتفوَّقُ على خوارقِ العذابِ في مختلفِ تنويعاتِ الجحيمِ التي صوَّرتْها المخيّلةُ الإنسانية، أو توعّدت بها الأساطيرُ والنُّصوصُ المقدّسةُ، فحسب؛ بل لعلّها، أيضاً، تتحدَّى أقصى ما يملكُ التخييلُ من طاقاتِ استحضار الشَّرِّ، وتمثيلِ القسوة، واستكناهِ الألم، وتجسيدِ الموت. وهذا ما يفعلُهُ أمجد ناصر هنا، على امتدادِ سبعِ طبقاتٍ جحيميةٍ، يدير في كلٍّ منها بنيةَ اشتباكٍ إنسانيٍّ وأخلاقيٍّ، فَرْديٍّ وجَمْعيٍّ، مادِّيٍّ ملموسٍ، ومجازيٍّ تخييليٍّ، في آنٍ معاً؛ ولكنْ، دائماً، ضمنَ إطار اشتغالاتٍ خلّاقة، لاستقصاءِ معادلاتِ الشِّعرِ والشِّعرِيَّةِ خلفَ هذه البنى المشتبكةِ والمتشابكة.
لكنّ جحيمَ أمجد ناصر ليس منشأةً ميتافيزيقيةً أو ماورائيةً، رغمَ تكرارِ مفردةِ "الله" والإلحاحِ على إبلاغِهِ بما يجري في مملكةِ مخلوقِهِ آدم، ورغمَ الإشاراتِ إلى عزرائيلَ وإبليسَ وصعودِ الشاعرِ المتكلِّمِ في القصيدةِ "إلى عِلِّيِّيْن"، غير ميّت، حَيَّاً، وجاهلاً، إنْ كان حدَّاداً أم نجّاراً أم ميكانيكياً أم شاعراً، وظانَّاً أنهُ رسولٌ غيرُ إلهيٍّ! ولهذا فإنّ ما تستكشفُهُ قصيدةُ أمجد ناصر من مراتبِ الشقاءِ وطبقاتِهِ لا يندرجُ في أيِّ مفهومٍ غيبيٍّ عن العقابِ في الحياةِ الآخرة، بل هو مثالٌ من أرض البشر في عصرِنا، تُنشِئُهُ أجهزةُ الاستبدادِ والفسادِ والجشعِ والهيمنة؛ بل ليس ثمّةَ مبالغة في القول إنّ المأساةَ السّوريّةَ هي ميدانُهُ ومشهديّتُهُ. الإشاراتُ في هذا الصددِ كثيرةٌ وجليّةُ المغزى: "البراميلُ التي تسَّاقطُ على الرُّؤوسِ كالمَطَر الذي أرسلَهُ اللهُ إلى أُممٍ أخرى"، و "بلادُ البراميلِ والسَّارينَ في مملكةِ آدم"، و "خَزَنَة البراميلِ المعبَّأةِ بـ التي إن تيْ والمساميرِ وأنصالِ السكاكين"، و"الأب باولو دالوليو".

هي رسالةُ اللّاغفران التي يُرسلها أمجد ناصر إلى عصرِنا، حول جحيمنا الأرضيِّ وضحاياه، وشقائِنا البشريِّ وصانعيهِ، وحولَ مملكةِ آدم "حيثُ صارت الكلمةُ للزّومبيِّيْن/ مصَّاصي الدماءِ/  أَكَلَةِ لُحُومِ البشر/ هَاتِكِي الأعراضِ/ مُغتصِبي الصِّبيَةِ الصغارِ/ رجالِ الخازوقِ والكراسي الكهربائيةِ/ مُحوِّلي القُرُودِ إلى بشرٍ، والعكس/ عاقّي آبائِهم وأمّهاتِهم/ الذين يقطعون الرّؤوسَ كَدَرْسٍ سريعٍ في التشريحِ". بيد أنّ النّصَّ البديعَ هذا لم يُكتَب إلّا لكي يُسجِّلَ نقلةً متقدّمةً ضمنَ تجربة أمجد ناصر الشِّعرِيَّةِ في المقامِ الأوّل، بل إنّ إنتاجَ قصيدةٍ رفيعةٍ هو الهاجسُ الأشدُّ بروزاً في مُعطياتِ العمل الفنِّيَّةِ؛ لأنّه إنما يبدأُ من بلاغةٍ في المَعْنى والمَبْنى، تُعلِنُ شِعْريَّتَهَا العاليةَ على الفور، فلا يُتاحُ لنبراتِ النَّصِّ النبيلةِ، الأخلاقيةِ والعاطفيةِ والفلسفيةِ، ولا الأهوالِ الجحيميةِ الطاغيةِ على سطوح المَعنى وبواطِنه، أن تُبطِئَ ارتقاءَ الجمالياتِ الشِّعْرِيَّةِ في مُستوياتِها المُختلفةِ والمُتكاملة.

تجهدُ "مملكة آدم" كثيراً لكي يتماهى القارئُ مع جحيمِها، ولكي يكونَ شريكاً في إعادةِ إبصارِ أهوالِهِ، بوصفها سمةَ عصرِنا، وليست نتاجَ ابتداعِ مخيّلةٍ أو أسطورةٍ أو نصٍّ دينيٍّ. وهذا، تالياً، عملٌ شِعْرِيٌّ فريدٌ، لا يُقرَأ فقط، بل يُبصَرُ عيانياً ومسرحياً وسينمائياً؛ ويُسمَع أيضاً، واستطراداً، لأنّ عماراتِهِ الإيقاعيةَ لا تُدغدغُ الآذانَ على عجلٍ، ولا تضخُّ الأناشيدَ قارعةً مُنذِرَةً. إنه بيانٌ شِعْرِيٌّ رفيعٌ، فَذٌّ وجارحٌ واختراقيٌّ، لكنه أيضاً رهيفٌ وجدانياً، ونبيلٌ إنسانياً، ومُنحازٌ أخلاقياً؛ يتوغَّلُ عميقاً في أنساقِ الفظاعاتِ التي باتتْ صنوَ الجحيمِ البشريِّ الأرضيِّ، وصارت المأساةُ السُّوريَّةُ مثالَهَا الأوّلَ، وأمثولَتَها العليا.
كما جاء في قراءة الكاتب والشاعر اللبناني عبّاس بيضون لما نُشر من "مملكةِ آدم" في العدد الأول من مجلة "براءات" الشعرية: يخوضُ أمجد في القدر والنِّهاية واللاَّمعنى والمَصِير أي إنَّه يخوضُ في الملحَمَة، ونحنُ نقرأ ونشعرُ بأنَّنا نقفُ على مشارفِ وقمَمٍ ملحميةٍ، فنحن لا نصل إلى اللاَّشيء وإلى السّلب المُطلق، إلا بعدَ أن نخُوضَ في أغوار فاغرة، إلا بعد أن نمرَّ على الجميع وعلى المنفى وعلى السَّراب وعلى النِّهاياتِ المُظلمة. نحنُ هنا في حربِ الإنسان مع نفسه وحربه مع قدره، وحربهِ مع الكون، ومع تهاوي معناه وصيرورةِ كلِّ شيءٍ إلى نفي عارم.
من الكتاب:
صوتٌ من الصحراءِ:
أنا نبيٌّ من دونِ ديانةٍ ولا أتباعٍ. نبيُّ نفسي. لا أُلزِمُ أحدًا بدَعْوتي، ولا حتّى أنا، إذ يحدُثُ أن أكفرَ بنفسي، وأُجدِّفَ على رسالَتِي. نبيّ ماذا؟ ومَنْ؟ لا أعرفُ شيئًا في هذه الظّلمةِ التي تلفُّني. لا أحملُ صليبًا على ظَهْري، وليس لي ناقةٌ تنشقُّ من الصخرِ. أتلمَّسُ طريقي بالضوءِ الصادرِ من عَينَيَّ، ولا أرى يدي التي تُلوِّحُ لجُمُوعٍ وَهْميةٍ، تموجُ تحتَ سفحِ الجبلِ.
*
أخطو في هذا الليلِ/ التيهِ
كَمَنْ يتوقّعُ أيَّ شيءٍ من قلبِ الإنسانِ/
صدري مفعَم ٌبخضرةٍ دائمةٍ /
لا بدّ أن هناكَ مَنْ يخطو مثلي في أمكنةٍ أخرى/
لستُ وحيدًا في هذا الليلِ الجامعِ/
بقَدَمَيَّ الملفُوفَتَيْن بخرقةِ الأولياءِ القدامى
أدوسُ الرملَ،
الحجرَ/
العوسجَ/
الذهبَ الخامَ/
الترابَ المرتابَ/
فَمَنْ يعرفُ أيَّ شيءٍ يدوسُ المرءَ في الليلِ التامِّ/
العمى ليس مرضًا في العَينَيْن
 بل ضعفٌ في عضلةِ القلبِ/
 أخطو إلى هذا الليل ِوفي يدي دليلُ الحائرينَ/
 أسمعُ مَنْ يقولُ: تفضَّلْ، اجلسْ معنا تحتَ هذه النجمةِ الضَّالَّةِ/ لِمَ العجلةُ؟ / الحيُّ يُؤنِسُ الميتَ/ والطريقُ أطولُ من ثلاثةٍ نهاراتٍ، تفصلُ بينها ثلاثُ آبارٍ، عليها ثلاثةُ غربانٍ، في منقارِ الأوّلِ حبَّةُ خردلٍ، وفي منقارِ الثاني حبَّةُ قمحٍ، وفي منقارِ الثالثِ لؤلؤةٌ.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024