خاتم بيلاطس الذي غسل يديه من دم المسيح

محمود الزيباوي

الإثنين 2018/12/03
في نهاية الشهر الماضي، نقلت صحيفة "هآرتز" الإسرائيلية خبراً يقول بأن العلماء توصّلوا إلى قراءة اسم "بيلاطس البنطي" على خاتم عثر عليه المنقّبون قبل خمسين عاما في موقع "هيروديون" المعروف عربياً باسم "جبل فريديس"، شرقي مدينة بيت لحم. سارعت وسائل الإعلام العالمية إلى نقل هذا الخبر، وأفردت مقالات لهذا الاكتشاف الذي شكّل حدثاً فريداً في عالم الآثار المسيحية، وذلك لكونه يشكّل سنداً تاريخياً ملموساً لرواية وردت في الإنجيل.


من هو بيلاطس البنطي؟ يتردّد هذا الاسم مراراً في الأناجيل الأربعة، كما يتردّ ثلاث مرات في "اعمال الرسل"، ومرة في إحدى رسائل بولس الرسول. وبحسب الفصل الثالث من انجيل لوقا، هو الوالي الذي أقامته الحكومة الرومانية نائبًا على "اليهودية"، أي على الجزء الجنوبي من الولاية الرومانية في فلسطين، في السنة الخامسة عشرة من عهد الإمبراطور طيباريوس قيصر. وكانت مدينة قيصرية مركز ولايته، وقد دام حكمه بضع سنين إلى ما بعد صعود المسيح إلى السماء.

وبحسب الفصل 17 من انجيل متّى، "تشاور جميع رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب على يسوع حتى يقتلوه، فأوثقوه ومضوا به ودفعوه إلى بيلاطس البنطي الوالي. فوقف يسوع أمام الوالي. فسأله الوالي قائلا: أأنت ملك اليهود؟ فقال له يسوع: أنت تقول. وبينما كان رؤساء الكهنة والشيوخ يشتكون عليه لم يجب بشيء. فقال له بيلاطس: أما تسمع كم يشهدون عليك؟. فلم يجبه ولا عن كلمة واحدة، حتى تعجب الوالي جداً. وكان الوالي معتاداً في العيد أن يطلق للجمع أسيراً واحداً، من أرادوه. وكان لهم حينئذ أسير مشهور يُسمى باراباس. ففيما هم مجتمعون قال لهم بيلاطس: من تريدون أن أطلق لكم، باراباس أم يسوع الذي يدعى المسيح؟ لأنه علم أنهم أسلموه حسداً. وإذ كان جالساً على كرسي الولاية أرسلت إليه امرأته قائلة: إياك وذلك البار، لأني تألمت اليوم كثيراً في حلم من أجله. ولكن رؤساء الكهنة والشيوخ حرّضوا الجموع على أن يطلبوا باراباس ويُهلكوا يسوع. فأجاب الوالي وقال لهم: منْ من الاثنين تريدون أن أطلق لكم؟ فقالوا: باراباس. قال لهم بيلاطس: فماذا أفعل بيسوع الذي يدعى المسيح؟ قال له الجميع: ليُصلب. فقال الوالي: وأي شر عمل؟ فكانوا يزدادون صراخاً قائلين: ليُصلب. فلما رأى بيلاطس أنه لا ينفع شيئاً، بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلاً: إني بريء من دم هذا البار، أبصروا أنتم. فأجاب جميع الشعب وقالوا: دمه علينا وعلى أولادنا. حينئذ أطلق لهم باراباس، وأما يسوع فجلده وأسلمه ليُصلب". 

تتكرّر الرواية في الأناجيل الأخرى. سلّم بيلاطس البنطي، المسيح، لليهود الذين كانوا يطالبونه بصلبه بصوت واحد. ولم يكن لليهود سلطان على تنفيذ حكم الموت، لأن هذا الحكم يعود للوالي الروماني، وكانوا يدركون بأن الوالي لن يحكم على المسيح بالموت بسبب تهمة دينية، فتشاوروا ليقدموه بتهمة أخرى، وادّعوا أن المسيح يطلب المُلك ويقاوم قيصر، وذلك كي يُعاقب صلباً، وفقاً للقوانين الرومانية. وبحسب الفصل 19 من انجيل يوحنا، صُلبالمسيح، ورُفعت فوق صليبه كتابة "بالعبرانية واليونانية واللاتينية" تقول بأنه "يسوع الناصري ملك اليهود"، فطلب رؤساء كهنة اليهود من بيلاطس أن يغيّر هذا الكتابة، وقالوا له: "لا تكتب: ملك اليهود، بل: إن ذاك قال: أنا ملك اليهود". فرفض وقال: "ما كتبت قد كتبت". وبعد موت يسوع، جاءه رجل من الرامة يُدعى يوسف، وهو تلميذ يسوع، وسأله أن يأخذ جسد يسوع بعد موته ويدفنه، فأذن له بذلك.

ظهر بيلاطس البنطي في بدايات الفن المسيحي منذ القرن الرابع، قبل أن تتشكّل صورة صلب المسيح. وتكرّرت صورته في مشهد "محاكمة يسوع" وهو يغسل يديه بالماء قائلاً: "إني بريء من دم هذا البار". نقع على هذا المشهد في عدد من النواميس المزينة بالصور المنحوتة، كما نجدها في منمنمتين من مخطوط من القرن السادس يُعرف باسم "انجيل روسانو"، وهو محفوظ في كاتدرائية مدينة روسانو، في مقاطعة كوزنسا التابعة لإقليم كالابريا جنوبي إيطاليا. تكرّر هذا المشهد في قوالب لا تُحصى على مدى قرون من الزمن في الفنون المسيحية، وتعدّدت في هذه القوالب المختلفة صور بيلاطس البنطي.

ويشكّل اكتشاف اسم الوالي اليوم على خاتم، حدثاً يؤكّد الرواية الإنجيلية المتوارثة منذ أكثر من ألفي سنة، وهذا الخاتم هو في الواقع ختم يُستخدم للتوقيع على المقرّرات الرسمية، وقد عثر عليه العالم جدعون فوستر العام 1968 وسط عشرات القطع المكتشفة، إلا ان الاسم المحفور عليه لم يُحدّد إلا مؤخراً، وذلك بفضل آلة تصوير خاصة تُستخدم لفك الكتابات التي تآكلت مع مرور الزمن. على هذا الختم، يظهر اسم "بيلاطس" بالأحرف اليونانية حول صورة تقليدية تجسّد إناءً للخمر، وفقاً للتقليد الشائع في الحقبة الرومانية.

يعود هذا الخاتم إلى القرن الأول، ويرجّح بأن الاسم المحفور على ختمه هو اسم الوالي الذي تحدّث عنه الإنجيل، ذلك أننا لا نعرف أي شخصية أخرى بهذا الاسم في القرن الميلادي الأوّل، وهو اسم نادر في مقاطعة فلسطين الرومانية، ولا نجد له أثراً إلّا في حجر منقوش كشف المنقبون عنه في مطلع الستينات.

يعود هذا الختم إلى شخصية من الطبقة العليا، كما يُستدلّ من شكله، وهو من النوع المستخدم في مهر الرسائل والوثائق الرسمية بإشارة من الشمع. لهذا، يميل أهل الاختصاص إلى القول بأنه يعود إلى صاحب الاسم المحفور عليه، أو إلى شخصية من كبار العاملين في البلاط كانت تستخدمه لتوقّع باسمه.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024