نودّع 2020.. نركلها

رشا الأطرش

الجمعة 2020/12/25

الكل يريد لهذا العام أن ينقضي ويأخذ معه أهواله.
لعله ليس في الروزنامة الحديثة، سنة مرذولة ومذمومة وكريهة، كالسنة التي نودّع هذه الأيام. عبارات المعايدات، الأغاني، الصور، البطاقات، المزاح والملصقات الالكترونية الساخرة، كلها هذه المرة تتمحور حول فكرة أساس: لم تبقَ مصيبة إلا ووقعت في 2020، وفرحة العيد هي فرحة انقضاء هذا الغمامة الداكنة، أكثر منها إثارة وتشويق الوقوف على عتبة سنة جديدة، آمالها وأحلامها وما تخبئه لنا. كورونا، أولاً وأخيراً، هي الجائحة المُصاب، ومعها وفي قلبها وعلى ضفافها، موت وفراقات وانزياحات نفسية وشخصية. ضائقة اقتصادية جَلل، حريات تنحسر وتُشوَّه، مصير جنس بشري كامل ما زال طيّ "ربما" و"الأرجح". مستوى غير مسبوق من تحديات التأقلم، بل أقلمة العَيش قسراً، بكافة تفاصيله، مع ابتلاء مستوحى من سينما الخيال العلمي.

ستنقضي 2020، والشكّ كبير في سنة جديدة أفضل. ومع ذلك، نركل القديمة ونزفر ارتياحنا. وكأننا، نحن الباقين على قيد الحياة، ركلنا عزرائيل في مؤخرته. ويبدو أننا، مع شبح الفناء والعِلّة والعزلة، نركل اكتشافات قديمة – جديدة. هي، بالأحرى، إعادات اكتشافات لما كنا نفترض أننا عرّفناه وبَنَينا مواقفنا منه وشيّدنا أعمارنا حوله. مع 2020، كأننا نأمل في أن نعكس عقارب الساعة، إن لم يكن على صعيد استعادة يومياتنا "الطبيعية" التي كدنا ننسى، فعلى الأقل بإيجاد ترياق ما للتعاويذ الماسخة التي أُلقيت على أركان الحياة، مثلما حطَّت الكمّامات على وجوهنا، والتصقت المعقّمات بجلودنا.

في 2020 أعدنا اكتشاف البديهيات، عدنا لزيارة المفاهيم المؤسِّسة بمنطلقات ومقاربات جديدة، عجائبية، ومقيتة في آن واحد.

أعدنا اكتشاف الخوف. ذلك الذي لا يفرق بين غريب وحبيب، الخوف الأحادي، على مقاس شخص. نتشاركه بالمليارات، لكن كلاً منا فيه بمفرده. الخوف بمقاسات مبتكرة، مجهرية، وبحجم كوكب.

أعدنا اكتشاف المَلل، وكنا نظننا مهرناه بختم المعرفة: مَلل الرتابة، الفراغ، اللاهدف أو مطاردة المستحيل. مَلل الأزواج القدامى، الفيلم البطيء، مَلل البَطالة، الأثرياء، ملل الموظف في القطاع العام، والمُنتِظر في طابور. هذا كله صار تاريخاً، للأرشيف. الملل الآن متغلغل في التعب، في الانقطاع المعقلَن والمموّه بوسائل التواصل الاجتماعي. مكثّف في تواصله من قلب مهام خالطت الفيروس وصارت تنتج طفراتها. مهام ننجزها سوية، في وقت واحد، تنهكنا وبالكاد تشغلنا عن مرور الزمن، في البيت والعمل ومع العائلة. وهو أيضاً المَلل من صحبة الذات، وحتى من الخوف الذي لا سبيل لتصريفه كاملاً. الملل كمَرض.

أعدنا اكتشاف البيت، بل هدمنا جدرانه وصار غرفة كبيرة واحدة، للعمل والاجتماعات، للمهنة والزيارات العائلية المحظورة، للنوم والأكل والتلفزيون، للأولاد واللعب والشجار، للمدرسة والمعلمين وبقية التلاميذ المُطلّين عبر الشاشات، للقُبل والدموع والعناقات الوحيدة المسموحة لمن نعيش واياهم تحت هذا السقف الواحد، وأحياناً الشتائم.. الفرد صار مؤسسة، والعائلة صارت مُجتمَعاً.

أعدنا اكتشاف مساحاتنا الشخصية، في ظل حبل توجس لا ينقطع. الهالة الخفية التي تحيط بكل جسد، صارت مرئية، وصرنا نلمسها ونضع أبوابها وأقفالها، ولا نوافذ. المتاجر، الشارع، النقل العام، المطار.. المساحة العامة دغل مفخخ بالأخطار. كهوفنا أكثر أمناً، فيها فقط نعود إلى مُعتاد ما عاد مُسلَّماً به. نحن الإنسان الأول قبل اكتشاف النار، ومدجج بأجهزة ذكية وانترنت.
أعدنا اكتشاف ملابسنا. ملابسنا صارت ثياب المنامة، في الغالب. الخُفّ أبقى من الحذاء. المرآة زينة الجدار، ما عادت مُصَوِّرة الوجوه والأجسام، إلا قليلاً.

أعدنا اكتشاف هواياتنا، مُجبَرين. الهواية صارت أسلوب بقاء، صمود العقل في شيء من عافيته، والنفس في شيء من نسيانها الواقع. الطهي، القراءة، الموسيقى، الرياضة، الألعاب المُعاد اختراعها للصغار والكبار... خيارات، لكنها ليست كذلك تماماً. بالنسبة إلى كثيرين هي كل ما تبقى، نصدّره بالصور والفيديوهات لنقول: ما زلنا، لم نمُت، لم نغرق في العتمة.

كُرَة 2020 المُفَيرسَة.. نرميكِ خلف ظهورنا، لا ليتلقفكِ أحد. فكلنا هنا ونسير خطوة حذرة إلى الأمام، مُطَمئنين أنفسنا إلى أننا -ربما- ثبّتنا شبكة أمان يُعتمَد عليها. نرميكِ لتضمحلي، حتى من الذاكرة. وكل ما أعدنا اكتشافه خلال سنة، وللمرة الأولى في التاريخ، يبدو اكتشافات رجعية، بعكس خط الحياة، اكتشافات بوصلتها للوراء، خلافاً لحقيقتنا وحقيقة الكون. لم أتخيل أني سأقولها يوماً: أُمنيتي للسنة الجديدة، أملي في المستقبل، هو استعادة الماضي... وهذه إعادة الاكتشاف الوحيدة التي قد ترسم ابتسامة العيد.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024