متحف القصور العثمانية: نهضة مستشرقين وبراعم الفن المحلي

محمود الزيباوي

الثلاثاء 2021/05/04
أعلنت الحكومة التركية مؤخرا عن اكتمال أعمال الترميم في "متحف القصور الملكية العثمانية"، ودعت وسائل الإعلام الرسمية إلى زيارة هذا الصرح الكبير بعد اكتسابه حلّة جديدة. يقع هذا المتحف في منطقة بشكطاش، في الطرف الأوروبي من إسطنبول، إحدى أهم وأشهر المناطق في المدينة، ويمتد على مسافة 11 ألف مربع، ويتألف من 43 قاعة تضم أكثر من 500 عمل فنّي، تختزل ولادة الفنون التشكيلية ونموها في الحقبة الأخيرة من العهد العثماني الطويل.

شيّد السلطان العثماني الثالث والعشرين عبد المجيد الأول هذا القصر في 1856، وعُرف يومها باسم "مكتب ولي العهد"، ثم تحوّل إلى متحف في عهد كمال أتاتورك سنة 1934. بعدها عملت الدولة على إعادة تأهيله وتنظيمه بشكل جذري في 2010، وافتتحته رسميا في 2014. ثم عادتْ وشرعتْ في إعادة تنظيمه وفق منظور جديد، وذلك لإبراز معروضاته بأساليب مبتكرة تعتمد أحدث أنظمة الإضاءة والتأطير والترتيب، كما عمدتْ إلى إثراء مجموعاته من خلال إدراج مجموعة كبيرة من اللوحات الفنية تمّ نقلها من دائرة المحفوظات التابع لقصر توبكابي الشهير، وذلك بعد ترميمها وتوثيقها.

كذلك، نُقلتْ أعمال أخرى من قصور عديدة، وباتت الأعمال الفنية التاريخية واللوحات والتحف التي كانت تزيّن جدران وأركان القصور العثمانية محفوظة في متحف واحد يُعرف باسم "متحف القصور الملكية العثمانية". في الخلاصة، يحوي هذا المتحف أعمالاً لفنانين مستشرقين عملوا في إسطنبول، وأعمالاً لفنانين محليين تتلمذوا على أيدي هؤلاء المستشرقين وباتوا رواداً للحركة التشكيلية التركية، إضافة إلى أعمال أوروبية اقتناها محبو الفنون من رجال السلطة في زمن أفول الدولة العثمانية.

المستشرقون العثمانيون
تشهد أقدم الأعمال المعروضة لصيغة توفيقية تجمع بين الجمالية "الجديدة" وملامح الأسلوب العثماني التقليدي. تغيب هذه الملامح تدريجياً، وتحلّ الجمالية الأوروبية لتسود بشكل كامل في لوحات تنقل مشاهد محلية. يتجلّى هذا التوجه في أعمال الفنانين الأوروبيين الذين عملوا في البلاط العثماني، كما في أعمال الفنانين المحليين الأوائل الذين تبنوا هذا النهج. يبرز هنا اسم إيفان كونستانتينوفيتش آيفازوفسكي، وهو رسام أوكراني روسي من أصول أرمينية، عاصر انبثاق ما يُعرف بـ"عصر النهضة الروسي"، سافر إلى اسطنبول في العام 1845 بناء على دعوة من السلطان عبد المجيد الأول، وأقام هناك سنوات رسم خلالها وجوهاً شخصية تخص سلاطين بني عثمان، منهم عبد المجيد الأول وعبد العزيز الأول وعبد الحميد الثاني، ويحوي متحف القصور الملكية العثمانية ثلاثين لوحة من أعمال هذا الفنان تعكس الأثر الكبير الذي تركه في الحياة الفنية العثمانية في تلك الحقبة.

كما يبرز اسم فاوستو زونارو، وهو فنان ايطالي ولد في مقاطعة بادوا يوم كانت تابعة للأمبراطورية النمسوية، درس الفن في فيرونا، ثم افتتح مدرسة فنية في البندقية، بعدها قصد اسطنبول في 1891، واستقرّ فيها، وصار محل اهتمام الدوائر الأرستقراطية، فتبنّاه السلطان عبد الحميد الثاني وجعل منه رسام البلاط، وكلّفه رسم سلسلة من اللوحات تتناول محطات من سيرة السلطان العثماني محمد الفاتح. بشغله هذا المنصب، اعتبر زونارو نفسه خليفة للرسام البندقاني الذائع الصيت جنتيلي بلليني، وهو فنان البندقية الذي كلفه السلطان محمد الفاتح رسم لوحة شخصية له في العام 1479. ويحوي متحف القصور الملكية العثمانية عشرين لوحة من أعمال زونارو تعتبر من أشهر الأعمال الاستشراقية العثمانية.

إلى جانب الروسي الأرمني آيفازوفسكي، والإيطالي زونارو، يحضر البولوني ستانيسلو تشلبوفسكي الذي تتلمذ على يد المستشرق الفرنسي جان ليون جيروم، وقدم إلى إسطنبول حيث تبناه السلطان عبد العزيز وجعله رسام البلاط بين 1864 و1876، كما يحضر الإيطالي سلفاتور فاليريا الذي انتقل إلى ضاحية من ضواحي اسطنبول في 1882، ومارس مهنة تعليم الرسم، وتتلمذ على يديه أبناء السلطان عبد الحميد الثاني، فحاز رسميا لقب "أستاذ الأمراء"، واشتهر برسم وجوه كبار العثمانيين، ومنها تلك التي تُعرض اليوم في متحف القصور.

رواد الفن التشكيلي التركي
جذبت هذه الحركة عدداً من الرسامين العثمانيين فسارعوا إلى الالتحاق بها، ومنهم من حظي بشهرة واسعة. ويسعى متحف القصور الملكية العثمانية إلى ابراز نتاج هؤلاء الرواد في الدرجة الأولى. في مقدم هؤلاء، يبرز عثمان حمدي بك، وهو من أصول يونانية، ويُعرف كمؤسس المتحف التركي المعماري والمدرسة التركية للفنون الجميلة التي عُرفت باسم دار الصنائع النفيسة، وتقع اليوم في أكاديمية المعمار سنان للفنون. سافر إلى باريس لدراسة الحقوق، ومكث فيها 12 عاماً، وأثناء دراسته تلك، تعلم الرسم في محترف جان ليون جيروم ومحترف غوستاف بوولنجر، وذلك في الحقبة التي أرسلت فيها الدولة العثمانية إلى العاصمة الفرنسية شاكر أحمد باشا وسليمان سيد لدراسة الرسم، ومع هذه الأسماء الثلاثة تشكلت دعامة الفن التشكيلي التركي الأولى.

توسّعت هذه الدائرة، وضمّت أسماء أخرى، منهم الخوجة علي رضا الذي التحق بالأكاديمية العسكرية، ودرس الرسم على يد سليمان السيد، ثم تعرف إلى فاوستو زونارو، وعمل معه لمدة سنتين. كما ضمّت هذه الحلقة اسم عبد المجيد أفندي، ابن السلطان عبد العزيز، وهو آخر سلاطين بني عثمان، كرّس نفسه لدراسة اللغات الأجنبية والفنون التشكيلية اثر رحيل والده في 1876، وتتلمذ على يد ستانيسلو تشلبوفسكي وفاوستو زونارو وسلفاتور فاليري، وانشأ جمعية الفنانين العثمانية في 1910، ودعم المجلة الخاصة بها.

يسلّط متحف القصور الملكية العثمانية الضوء اليوم على هذه الحركة، كما يلقي الضوء على الأعمال الاستشراقية الكبيرة التي دخلت عاصمة السلطنة ومنها لوحة "الصيد في الصحراء" التي أنجزها فيليكس أوغستي كليمنت في 1865، وتبلغ مساحتها 35 مترا مربعًا، وقد تم نقلها مؤخرا من "قصر سعيد حليم باشا" في إسطنبول إلى المتحف بعد ترميمها. من جهة أخرى، يخصص المتحف ركنا واسعا لمجموعة أوروبية كبيرة خرجت من "غاليري غوبيل" الفرنسية ودخلت إسطنبول في عهد عبد العزيز الأول ومستشاره شاكر أحمد باشا، وتشهد هذه المجموعة بشكل لا لبس فيه للذائقة الكلاسيكية الأكاديمية التي سادت في زمن أفول الخلافة العثمانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

مركز ثقافي 
في الخلاصة، دعم السلاطين الإصلاحيون الفنون التشكيلية بحماسة بالغة، فاستقبلوا الفنانين الغربيين، وأوفدوا أبناء رعاياهم إلى أوروبا لرفع سوية معارفهم، وانضم السلطان عبد العزيز إلى هذه الحركة، وانخرط فيها، ودعم محترفاتها، وترأس أحدها. افتتحت أول أكاديمية للفنون أبوابها في اسطنبول العام 1874، وعرض طلابها باكورة أعمالهم على الجمهور العام 1876. بعدها، فتحت مدرسة الفنون الجميلة أبوابها رسمياً في 1883، وترأسها عثمان حمدي بيه، وعُرِفت هذه المدرسة في عهد الجمهورية بأكاديمية الفنون الجميلة، ثم جامعة المعماري سنان. واليوم، يستعيد متحف القصور الملكية العثمانية هذا التاريخ، وذلك برعاية الحكومة التي تسعى بأن تجعل منه مركزًا للثقافة والحياة الفنية في تركيا.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024