السادات بقلم روبير سوليه... المهرّج البليد سياسي محنّك

محمد حجيري

الأحد 2015/10/25
في إطار المعرض الفرانكوفوني الـ22 في البيال(*)، يزور لبنان روبير سوليه، الصحافي في جريدة "لوموند"، والذي كرس جزءاً كبيرًا من كتاباته، الصادرة جميعها بالفرنسية، لبلده الأم مصر حيث ولد العام 1946، وترجمت له عناوين عديدة إلى العربية من بينها "مزاج" و"ولع فرنسي"، والآن كتاب "السادات"(صدر بالفرنسية العام 2013) وسيوقعه بنسخته العربية في 25 تشرين الثاني في جناح هاشيت أنطوان...

الكتابة عن السادات لها وقع خاص، ودلالات كثيرة، ذلك لأن شخصيته تطرح الكثير من الأسئلة، هل هو "بطل الحرب والسلام"؟ أم خائن للعرب وقضيتهم؟ الرئيس المؤمن الداعم للحركات الأصولية؟ أم عدو الإسلاميين الذي قضى على يد أحدهم؟ صديق عبد الناصر؟ أم كارهه الأول ومدمر إرثه؟ هذه الأسئلة يطرحها سوليه ويجيب عليها بتمعن، ويكشف النقاب عن "الرجل والإنسان خلف الأسطورة".

لا شك ان السادات هو من أكثر القادة العرب إثارة للجدل، بمواقفه المتقلبة، وشخصيته الاستعراضية، وتاريخه الحافل بالتناقضات. فينقل روبير سوليه عن هنري كيسنجر، وزير خارجية أميركا الأسبق، أنه وصف السادات في جلسات خاصّة بـ"المهرّج البليد". لكن السادات استطاع أن يثبت للجميع ويفاجئهم بأنه سياسي "محنّك". إذ عرف كيف يفرض أسلوبه وقام بمبادرات غيرت جوهر المعطيات في الشرق الأوسط... فرحلته الى القدس العام 1977، وبلا أي مقابل، في وقت كانت إسرائيل عدوة العرب اللدودة، ومحتلة ارضهم، أصابت العالم بالذهول والعرب بالصدمة، وأفضت الى معاهدة كامب ديفيد الشهيرة.

والسادات نفسه قبل أربع سنوات من زيارته القدس، أحدث مفاجأة من نوع آخر، فشن حرباً على إسرائيل التي لا تقهر، كما كانت تعتبر، وفرض قوته في ذلك النزاع المسلح الذي تسبب بالأزمة النفطية الأولى، مغرقاً الاقتصادات الغربية في أزمة لم تنهض منها.

وحياة السادات أشبه برواية. فالمراهق المتحدر من عائلة فلاحين، كان محافظاً وإصلاحياً في آن.. زعيم قرية أو عمدة كما كان يحلو له أن يقول، وصديق لكبار رجال العالم... ورث عن أمه نصف المصرية ونصف السودانية، بشرته الداكنة، التي كانت تزعجه باستمرار، بينما كان فخورًا دائمًا بكونه فلاحاً، وهو الرجل الذي حلم بأن يصبح ممثلاً، انتهى به المطاف الى أكبر مسارح العالم. ويقول سوليه إن السادات اعترف، وهو في عامه السابع والثلاثين، أن المسرح جذبه طوال حياته. كما أنه كتب ذات يوم، للمنتجة السينمائية أمينة محمد، بعدما نشرت إعلاناً لتوظيف ممثلين، قائلا لها: "اأا شاب ممشوق القوام، متين البنية، جميل الملامح. لست أبيض، لكنني لست أسود كذلك. بل إن لون بشرتي أقرب إلى الخمرة". وكانت خيبة السادات كبيرة بأنه لم يُختر للتمثيل، فأطلق لحيته، وتقمص دور حاج عائد من مكة، وقرر أن يمثل منفردًا، ليلهو ويستأنس، لكن السادات يكمل بالقول: "لكنني سرعان ما مللت ذلك بعدما لم يكترث بي أحد".

دخل السادات الكلية الحربية والتحق بالضباط الأحرار، إلا أنه يختلف عن كثيرين منهم، بأنه لم ينتم إلى تنظيم الإخوان المسلمين أبدًا، إلا أنه أعجب أشد الإعجاب بحسن البنا الذي التقاه تكرارًا ورأى فيه "مصريًا صميمًا". كان ثمة تعاون بين الرجلين لكنه لم يبلغ حدًا وثيقًا. وبدءاً من بداية الأربعينات، سيدخل السادات مغامرات عديدة، حيث سيعتقل في قضية تجسس نازية، ويودع السجن ثم يهرب منه ويعيش متخفيًا، ثم يعتقل مجددًا ثم يطلق سراحه بعد انتهاء حرب 1948، ويعود إلى الجيش.

والسادات هو الذي أذاع على أثير راديو القاهرة في تموز 1952 خبر استيلاء الضباط الأحرار على السلطة. بعد ذلك الانقلاب، بدا كأنه تخلى عن طموحه، اذ عاش في ظل عبد الناصر، متقيداً بأوامره، مبرهناً عن "وداعة مثالية"، تكاد تبلغ حد التزلف بحسب سوليه، كما اعتبر شخصا باهتاً وضعيفاً، لم يتخيل أحد أن يكون وريث الزعيم الجماهيري الذي كان بمرتبة "نبي"، ويفرض نفسه شيئاً فشيئاً، ليشرع لاحقاً في عملية محو للناصرية وليبرز الوجه الساداتي لمصر. وفي عهده، طرد الخبراء السوفيات، ونقل البندقية من اليسار السوفياتي الى اليمين الرأسمالي، اي انتقل من أحضان الشرق الى أحضان الغرب، وبحسب الكتاب: "كان يبدأ يومه مصغيًا إلى آيات من القرآن، قبل أن يصلي ثم يستمع إلى كاسيتات أغاني أسمهان أو فريد الأطرش، أو محمد عبد الوهاب، فيما يغتسل ويحلق ذقنه. وفي النهار ومهما كانت الظروف يجد وقتًا لرياضة المشي اليومية، حتى لو اضطر أن يستكملها على دراجة التمارين المنزلية. وينتهي النهار في صالة السينما الخاصة. فكل الأفلام المصرية أو الأجنبية كانت تصل إلى الرئيس قبل مرورها بالرقابة".

والسؤال الذي يفرض نفسه أيضاً، ما ثمرة حنكة السادات ومبادراته؟! فهو جنّب مصر حروب الاستنزاف مع اسرائيل أو غيرها، لكن، في المقابل، كان يُفترض بالانفتاح الاقتصادي الذي تغنّى به أن يترافق وتأسيس ليبرالية سياسية. لكن هذه العملية توقفت قبل تحقيقها نتيجةً تُذكر، ولا يقتصر السبب على ذلك الصراع المرير الذي تخوضه مصر ضد الفقر والأمية والتزايد السكاني، فالسادات الذي أيّد في شبابه الديكتاتورية، بقي في جوهره حاكما استبدادياً مطلقاً. كان يحب النقاش في الحلقات الخاصة، الا أنه لم يحتمل أي معارضة في العلن.

لم يمنع زوجته جيهان من ان تكون عصرية وتعمل من أجل الارتقاء بحقوق المرأة. ومن جهته، لم يكتف بإظهار علامات إيمانه، وإنما أدخل في الدستور المصري مبادئ الشريعة، وفسح الطريق للإسلاميين ليحاربوا اليسار المصري والناصريين، وهذا الخطأ كلفه حياته وساهم في إفساح مكان كبير للدين في الحياة السياسية والإجتماعية. واغتيل السادات، أثناء عرض عسكري، لتطوى بذلك صفحة "سنواته" الحافلة بالتناقضات والتي تركت، في الوقت نفسه، آثارها العميقة التي يرى روبير سوليه، أنها تشكّل "مفاتيح أساسية" لا بدّ من فهمها من أجل فهم "مصر" حالياً.

ما يقوله كتاب سوليه لنا نحن القراء العرب، اننا في العالم العربي، دائما ننتظر الكتّاب الآتين من الغرب، لتشريح سياستنا وثقافتنا وشخصياتنا، سواء وافقنا على مضمون ما يكتبونه أم لم نوافق.


(*) وصل سوليه إلى فرنسا العام 1964 في عمر لم يتجاوز الثمانية عشر ربيعا ليدرس في المدرسة العليا للصحافة في مدينة ليل الفرنسية، ولينضم إلى جريدة "لوموند" العام1969 ثم يعين مراسلاً في روما من 1974 إلى 1980، ثم مراسلاً في واشنطن من 1980 إلى 1983 ويتولى رئاسة تحرير "لوموند" من 1989 إلى 1992 ويشرف بعد ذلك على الملحق الأدبي الذي يحمل مسمى "عالم الكتب"، ثم يتفرغ بعد ذلك منذ العام 2011 لكتابة الكتب والروايات عن مصر والمصريين.
خلال زيارته لبنان في إطار المعرض الفرنسي يوقع كتابه "فندق ومهرجان" ويشارك في ندوة عن نجيب محفوظ عنوانها "العصي على الزمن... لماذا نقرأ دائماً نجيب محفوظ؟"، إضافة إلى ندوة مشتركة مع الروائي اللبناني شريف مجدلاني.

©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024