أفلام "نتفليكس" اللبنانية: السينما في تناقضاتها (2)

حسن الساحلي

الخميس 2021/02/25
اشترت منصة نتفليكس منذ أشهر، حقوق عرض 34 فيلماً لبنانياً ضمن استراتيجية توسيع سوقها العالمي(عطفاً على القسم الأول من المقال)، معظمها عرض سابقاً في الصالات اللبنانية. من بين هذه الأفلام، خمسة للمخرج مارون بغدادي، أضيفت ضمن سياسة المنصة من أجل زيادة حصة الإنتاجات القديمة، علماً أن بغدادي هو الاسم الوحيد الذي تمثل من بين مخرجي السبعينات والثمانينات، ربما لأن أفلامه تبقى الأفضل من ناحية الجاذبية المرتبطة بالعنف والإثارة، إن قورنت بافلام جان شمعون، برهان علوية، جوسلين صعب، ورندة الشهال..

أفلام بغدادي الخمسة هي "بيروت يا بيروت"، فيلم تخرّجه، والذي مازال حتى اليوم وثيقة قيّمة لأي راغب في فهم المزاج اللبناني عشية الحرب الأهلية. "حروب صغيرة" فيلمه الثاني والأشهر، الذي يستعمل الحرب كفضاء تتحرك على هامشها الشخصيات، إلى أن تصبح جزءاً منها في النهاية. يظهر الفيلم أكثر اكتمالاً من الناحية الفنية والسردية من فيلمه الأول، ما ينطبق على السيناريو، الإخراج، وادارة الممثلين. أما الفيلم الثالث فهو "خارج الحياة"، فيلمه الأخير الذي أنهاه قبل رحيله المبكر، والحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان "كان". يتناول الفيلم عملية خطف مصور فرنسي، مستوحاة من عمليات الخطف التي استهدفت الأجانب، وقامت بها منظمات تابعة لإيران خلال الثمانينات، متابعاً استعمال الحرب كفضاء، لكن مع تركيز أكبر على الغرف المظلمة والأمكنة التي يصنع داخلها المحاربون مجتمعاتهم حين تتوقف المعارك.

أما من ناحية الافلام الوثائقية لبغدادي، فاختارت المنصة فيلمين هما "همسات" و"كلنا للوطن" (1979 و1980). يجوب الأول المناطق اللبنانية برفقة الشاعرة الراحلة ناديا التويني التي كانت حينها تعاني مرض السرطان (وستفارق الحياة بعد ثلاث سنوات من عرض الفيلم)، فنلتقي شخصيات يجمعها الإنتماء إلى عوالم بعيدة عن الحرب أو "مضادة لها". كل منهم يحاول صناعة معنى لحياته في بلد فقد كل شيء فيه معناه. من بين هؤلاء، بعض الفنانين الفاعلين في الحياة الثقافية اللبنانية مثل الرسام رفيق شرف، والفنان زياد الرحباني، والمايسترو عبد الحليم كركلا. أما الباقون فيمتلك بعضهم أدواراً في الحياة الاقتصادية، مثل الموظف في مصرف لبنان حينها (الرئيس) فؤاد السنيورة، أو يقومون بمهن تشكل أهمية على المستوى الثقافي أو الاقتصادي.  


صوّر الفيلم العام 1980 أي في فترة رُوّج خلالها أن الحرب قد انتهت، وأن الاستثمارات ستعود، لذلك نجد هذا الاصرار السوريالي أحياناً، على إظهار لبنان كبلد مثالي للاستثمارات الصناعية والزراعية وحتى التكنولوجية (الفيلم أنتج بدعم من بنك البحر المتوسط). المشكلة الأخرى في الفيلم كثرة الشخصيات، ما يصغر المساحة المخصصة لكل شخصية، وبالتالي يجعل البورتريه بأفضل الأحوال كاريكاتوراً للشخصية، يعتمد على عناوينه العامة، من دون غوص في التفاصيل.

ثم، "كلنا للوطن" الذي صنعه بغدادي بعد اجتياح الجيش الاسرائيلي، جنوب لبنان، العام 1979. رحلة غنائية وشاعرية في قرى الجنوب حيث الحياة ما زالت أكثر بساطة وتقليدية، يعرج خلالها على حيوات شخصيات تمتلك معارف حول المجتمع الجنوبي، تراثه ثقافته، وتاريخه. أيضاً يركز الفيلم على العادات الدينية والطقوس، مثل مناسبة عاشوراء التي كانت ولا تزال مثيرة لاهتمام الكتاب والسينمائيين اللبنانيين والأجانب. ويكتسب هذا التركيز أهمية مضاعفة، إن وضعنا في الحسبان أن الفيلم صنع قبل مدة بسيطة من بداية المد الإيراني، الذي سيجتاح المجال العام والخاص في الجنوب، مغيراً عادات السكان وثقافتهم.

يحضر غناء مارسيل خليفة بشكل كبير في الفيلم من خلال أعمال تتناول الجنوب، منها "يا علي" (كلمات عباس بيضون) التي تعطي معنى جديداً لمشاهد الحياة اليومية للعائلات والفلاحين والمقاتلين. تأخذ هذه المقاطع الغنائية، الفيلم، إلى مكان مختلف عن الوثائقي التقليدي لتجعله أقرب إلى فن "الفيديو" الذي يتخلى عن السيناريو التقليدي مقابل التركيز على الانطباعات والأحاسيس. تظهر هنا قدرة مارون بغدادي في استعمال بورتريه الوجه وجماليات المكان والضوء الطبيعي كوسيلة لتعزيز الطاقة الشاعرية، ما يخلق عنصراً موازياً لرومانسية الشعر والغناء. 

نموذج معاكس
من المخرجين الآخرين الذين تمثلت أفلاهم في المنصة، فيليب عرقتنجي، في ثلاثة أفلام روائية وفيلم واحد وثائقي. طبعاً، شتان بين أفلام بغدادي السياسية العنيفة، وأفلام عرقتنجي الخفيفة والاستهلاكية. لكن بالنسبة إلى "نتفليكس" تؤدي أفلام الأخير الوظيفة المطلوبة (كما الجزء الأكبر من اختيارات المنصة)، من ناحية تحقيق المشاهدات والتسلية لجميع أفراد العائلة من دون إصابتهم بالملل.

من أفلام عرقتنجي التي اختارتها المنصة "بوسطة"، فيلمه الروائي الأول الذي أتى بعد عمله لفترة طويلة في مجال الأفلام الوثائقية. فيلم غنائي يتمحور حول فرقة دبكة لبنانية، تحارب من أجل الحصول على الإعتراف بعد تعرضها للإقصاء من مسابقة الدبكة الوطنية. خطأ الفرقة كان تصميم رقصة تغير من هوية الدبكة التقليدية ما يثير استياء لجنة الحكم التي تتهمها بتشويه التراث. الفيلم يشارك فيه ممثلون معروفون لكن لم تستهلكهم الشاشات، مثل ندى ابو فرحات، ليليان نمري، ونادين لبكي التي تؤدي مقاطع غنائية في الفيلم، بالإضافة لمشاركتها بالتمثيل والرقص.

طبعاً فكرة الفيلم منتهية الصلاحية، ولو عرضت في الستينيات كانت ستبدو قديمة أو خارج زمنها. ينطبق هذا على أفلام عرقتنجي الأخرى التي تعيد طرح أسئلة عفى عليها الزمن من دون أي رغبة بالنظر أبعد قليلاً من المباشر والمعتاد. مع ذلك يقدم الإعلام اللبناني المخرج على أنه عبقري سينمائياً، بسبب اتساق أفلامه مع السرديات السائدة ولعبها على الكليشيهات الوطنية ما ينطبق بشكل خاص على فيلمه الوثائقي الذاتي "ميراث" (أضافته المنصة أيضاً).

من ناحية أخرى، يمكن رؤية "بوسطة" كنموذج للأفلام اللبنانية الاستهلاكية، إن كان الفراغ في المضمون الذي يتم يُملأ عبر تعزيز التوتر الجنسي بين الشخصيات، او من ناحية السيناريو والحوار المكتوب الذي يبذل مجهوداً للوصول إلى مستوى من الخفة والذكاء. يذكّر الفيلم بأعمال نادين لبكي الأولى التي كانت ضمن هذا الخط، قبل أن تقرر ملاحقة القضايا الأكثر جاذبية للمهرجانات، مثل قضايا حقوق الإنسان وقصص التعايش بين الحضارات والطوائف. الأمر نفسه يحصل مع عرقتنجي الذي بدأ مؤخراً الابتعاد عن خفّة البدايات، مقابل قصص أعمق من الناحية الفنية، وتتطرق لقضايا اجتماعية ونسوية (يذكر أن لبكي تمكنت في الوقت نفسه من تعزيز المستوى التجاري، ما ينطبق على "كفرناحوم" الذي حصد مثلاً 58 مليون دولار في السوق الصينية).


مثلاً يتناول فيلم عرقتنجي "اسمعي" (2017) الذي أضافته المنصة، قصة حب بين شاب درزي وفتاة مسيحية. الفتاة تعمل في مجال السينما (تمثيل) حيث تواجه صعوبات في علاقتها مع أهلها بسبب نمط حياتها الجامح والمتحرر. أما الشاب فيعمل في المجال نفسه (تسجيل صوت) لكنه ينتمي إلى طبقة أدنى ويعيش نمط حياة أقل جموحاً. الحدث الحاسم في الفيلم هو إصابة الفتاة بحادث سير ودخولها في حالة كوما. تتعزز حينها فرص استحواذ العائلة على جسدها الذي يُمنع الشاب من رؤيته في المستشفى، ما يضطره لتسجيل مقاطع صوتية تحوي اعترافاته واصوات من الامكنة التي تحبها (مواقع طبيعية، أمكنة كانت ترتادها، مقاهي ...) تقوم أخت الفتاة بوضعها على أذنيها بالسر.

الفيلم إخراجياً أفضل من سابقيه، حيث يتسم التمثيل فيه بالطبيعية وعدم الاستعراض (يارا بونصار، رنا زعرور، وهادي بو عياش) وينطبق هذا على التصوير والإضاءة. لكن، رغم أن الفيلم يحاول وضع "المرأة اللبنانية المعاصرة" (إن استعملنا تعبير إحدى الشخصيات) في المركز، إلا أنه فعلياً يهمشها ويظهرها من دون عمق حقيقي، وفقط كصورة متحررة وجميلة، بعكس شخصية الشاب المثقف الذي يستعمل لاحقاً مواهبه الفنية المتعددة لإيقاظ الفتاة من الكوما.

ما يؤكد هذا التمركز الذكوري في الفيلم، هو الأحداث التي تحصل خلال النصف الثاني من الفيلم، أي عندما يصبح الشاب وحيداً من دون حبيبته. في أكثر من مشهد نرى كيف تحاول الفتيات التقرّب منه، لكنه يصد تلك المحاولات كنوع من الوفاء لحبيبته. لا يلبث أن يصبح هذا التمنّع إلى نوع من التضحية خلال الأشهر الطويلة التي يغوص الشاب خلالها في الكآبة وفقدان المعنى. لا يتغير هذا الواقع، سوى عندما تنجح أخت الحبيبة السابقة، بالفوز بقلبه، بعدما كانت معجبة فيه.

في نهاية الفيلم نرى مشهداً تظهر فيه فتاة الكوما وقد فتحت عينيها، ليستنتج المشاهد أن الأمور لا بدّ تصبح أكثر تعقيداً وتضطر الإناث في الفيلم للصراع على قلب الذكر الوحيد. لا يتمثل الذكوري هنا بالضرورة بالعنف أو القسوة، بل بالذكاء والهدوء والثقافة، ما يتناقض مع الجموح والنشاط الدائم عند الفتاة، التي تختصر وظيفتها بالمنافسة مع الفتيات الأخريات على الذكر المثالي، وبإلهامه وتحريك مشاعره ليتمكن من إخراج أفضل ما فيه من طاقات.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024