الغرب ونبي الإسلام.. أقانيم الحداثة بمواجهة أقانيم الدين

محمد حجيري

السبت 2020/10/31
من دون شك، تخطّت أوروبا "المركزية" الأقانيم الدينية والكنسيّة، وإن كان بعض الكنسيين أو المتدينين يعيشون حنيناً الى زمن سطوتهم ونفوذهم، فرغم تقلص حضور الكنيسة في أوروبا، ما زالت كتب وأفلام تحدث سجالاً ورفضاً ونقداً. رواية "الإغواء الأخير للمسيح" (1951) لـنيكوس كازنتزاكيس منعتها الكنيسة الكاثوليكية؛ وأثارت الجدل ذاته بعدما صورها المخرج مارتن سكورسيزي في فيلم العام 1988، وهاجمت مجموعة مسيحية متطرفة من الفرنسيين السينما التي تعرض الفيلم بزجاجات المولوتوف وأصيب 13 شخصاً... وحين أصدر البرتغالي جوزيه ساراماغو (1922-2010) روايته "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" العام 1991، أثارت عاصفةً من الردود التي انهالت على الرواية وصاحبها. استنكرتها الكنيسة الكاثوليكيّة بشدّة واعتبرتها تجديفيّة، أمّا الحكومة البرتغاليّة فمارست الرقابة عليها، معتبرةً إيّاها "مهينةً بحقّ الكاثوليك".

عملياً، تخطّت أوروبا الأقانيم الدينية منذ زمن، لمصلحة "أقانيم" حداثية، مثل حرية الفرد و"أوشفيتز" ومواضيع تخص العنصرية والمهمشين والمثليين وحقوق المرأة. وعلى هذا، لا عجب أن يحصل الصدام والاشتباك بين الغرب وبعض جمهور المسلمين (أو الإسلاميين) الذين يتمسكون بكل التفاصيل الدينية ويعتبرونها مقدسات لا يمكن المس بها، وكثيراً ما يُستغل هذا الاشتباك في إطار سياسات وهويات "قاتلة". فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوظّف اليوم قضية "الإساءة" الى نبي الإسلام في فرنسا، لتحشيد المسلمين، في اطار الصراع مع ماكرون على البحر المتوسط والمشرق، في حين بقيت إيران شبه صامتة أو مترددة، مع التذكير بأن "روح الله الخميني" كان أصدر في أواخر الثمانينات، فتوى بهدر دم الكاتب البريطاني من أصل هندي، سلمان رشدي، على خلفية روايته "آيات شيطانية" التي اعتبرها الخميني مسيئة لنبي الإسلام... وأدت الفتوى إلى أزمة دولية ودبلوماسية كبيرة لم تنته بعد، واستعمل الخميني الفتوى لاستنهاض العصبية الإسلامية حوله، وانتشرت الرواية وقُتل بعض مُترجميها، ومعظم الكتابات العربية عنها جاء من باب الهجوم على الكاتب قبل قراءة الرواية، ودافع صادق جلال العظم عن رشدي في كتابه "ذهنية التحريم" مبرراً له تخيّله الأدبي... 

وقبل تخطي الأقانيم الدينية، كانت نظرة الأوروبيين إلى نبي الإسلام على أكثر من وجه، وفي اتّجاهات متباينة ومتناقضة؛ ذَهبت إلى حدّ وصفه بـ"الدجّال" و"الزنديق" و"الفاسِق"، وذهب مفكّرون وشعراء آخرون، من أمثال غوته ولامارتين وغيرهما، إلى نعْت محمّد بأنّه "إصلاحي" و"عقلاني متميّز". وفي القرن الـ15 استخدم العديد من المؤلفين الإسبان والأوروبيين الآخرين صورة النبي المشوهة هذه، للدفاع عن حملات صليبية جديدة ضد المسلمين في غرناطة وضد الإمبراطورية العثمانية. وكان نشر ترجمة القرآن مغامرة خطيرة في أوروبا القرن الـ16، إذ سجن ناشر محلي في بازل السويسرية العام 1542 بسبب نشره ترجمة لاتينية للمصحف، لكن القسيس البروتستانتي الألماني مارتن لوثر تدخل لإنقاذه واعتبر أنه ليس هناك طريقة أفضل لمحاربة الترك (العثمانيين) من فضح "أكاذيب وخرافات ماهوميت". و"ماهوميت"، هو الشخصية المزيفة لمحمد، التي تخيلها ورسمها كتّاب أوروبيون غير مسلمين بين القرنين الـ12 والـ21... وفي القرنين الـ19 والـ20 جرى تصوير النبي باعتباره "دجالاً"، لتبرير الاستعمار الأوروبي للأراضي الإسلامية ولتشجيع عمل المبشرين المسيحيين.

وكان الفرنسي فولتير أكثر فلاسفة الأنوار اهتماماً بالإسلام، وبشخصية نبيه. في البداية هاجمه بشدة، ونعته بأقبح النعوت. ويبرز ذلك في مسرحيته "محمد والتزمت"، وفيها وصف الرسول محمد بـ"الطاغية" و"الماكر". وترجم الألماني غوته هذه المسرحية إلى لغته الأم. وعندما التقى بنابليون في "ارفرت"، عبّر له هذا الأخير عن تبرّمه من المسرحية المذكورة قائلاً بأنها "مجرد صورة كاريكاتورية بائسة". وقد وافق غوته على رأي الإمبراطور قائلاً: "أنا على رأيك يا صاحب الجلالة... قد قمت بالترجمة غصباً عني... لكني أعتقد أن الفقرات التي تتضمن هجوماً عنيفاً على التزمت ليست موجهة للإسلام، بل للكنيسة الكاثوليكية". وقيل إن المسرحية كانت رمزية، قصد منها إسقاطاً على شخصية فرنسية أخرى ليتسنى له تمريرها ويتجنب رقابة الكنيسة، ومع ذلك تراجع فولتير عن رؤاه السلبية لنبي الإسلام، واصفاً الإسلام بأنه "ديانة حكيمة، وصارمة، وإنسانية، وطاهرة".

وليس فولتير وحده من أساء الى نبي الاسلام. في حوار أجري مع المستشرق برنارد لويس، قال: لقد كانت الإساءة إلى النبي أمرًا شائعًا في أوروبا، ولقرون عديدة". وأبرز نموذج في هذا المجال "الكوميديا الالهية" لدانتي. فقد سأل الشاعر الفلسطيني تحسين الخطيب لماذا اضطرّ من تنكب مشاقّ ترجمة "الكوميديا الإلهية" إلى حذف الأبيات التي أوردها دانتي ألغييري، في الأنشودة الثامنة والعشرين من "الجحيم" (والتي تصوّر النبيّ الكريم، في الوادي التاسع، "وأحشاؤه تتدلى بين ساقيه"، والإمامَ عليّا وهو "يمضي باكيا/ مفلوع الرأس من هامته حتى ذقنه") كما فعل حسن عثمان في ترجمته التي صدرت عن دار المعارف المصرية العام 1959، أو إلى "إبهام" الشخصيّتين كما فعل كاظم جهاد في ترجمته الكاملة التي صدرت عن المؤسسة العربية العام 2002؟ 

يقول حسن عثمان في الحاشية الحادية والخمسين، من الحواشي التي وضعها للأنشودة الثامنة والعشرين "ولقد حذفتُ من هذه الأنشودة أبياتاً وجدتها غير جديرة بالترجمة، ورَدَت عن النبي محمد". يضيف الخطيب: "وقد أخطأ دانتي في ذلك خطأ جسيماً، تأثر فيه بما كان سائداً في عصره، بين العامة أو في المؤلفات، عن الرسول العظيم، بحيث لم يستطع أهل الغرب وقتئذ تقدير رسالة الإسلام الحقة وفهم حكمته الإلهية. على أنّ هذا لم يمنع أهل العصر -ومن بينهم دانتي- من تقدير الحضارة الإسلامية والتأثر بثمراتها، التي كانت عنصراً فعالاً في خروج العالم الغربي من العصور الوسطى إلى عصر النهضة فالعصر الحديث". بينما يذهب العراقي كاظم جهاد إلى القول في الحاشية الأولى التي وضعها لترجمته: "يصف دانتي في هذه الأنشودة المكرسة لمحدِثي الشّقاق العذابَ الذي تتلقّاه شخصية إسلامية أساسيّة اضطررنا إلى إبهامها، بدلاً من حذف الأبيات بأكملها كما فعل سلفنا الكبير الدكتور حسن عثمان، مع إشارته بكامل النزاهة إلى قيامه بهذا الحذف".

بالمختصر، مهما كانت صورة المسيح وغيره في المتخيّل الروائي الأوروبي، قوية ونافرة، لم تصل الأمور الى حد إصدار فتوى بهدر دم صاحب التخيّل، كما حصل في قضية سلمان رشدي. وفي السنوات اللاحقة، وخصوصاً بعد 11 أيلول، حصل ما هو أبعد من الفتوى، إذ وصلت الأمور الى القتل. فمحمد بويري (الأصولي) أقر العام 2004 بقتل المخرج السينمائي الهولندي ثيو فان غوخ، المعروف بانتقاده اللاذع للإسلام وإخراجه فيلماً ضد المسلمين أثار توترات دينية وعرقية في البلاد. وهزت الجريمة سكينة هولندا، التي لم تعرف جريمة منذ عقود، وشعرت الجالية المسلمة بالخطر.... ومن بعدها قتلت مجموعة إسلامية مسلحة، عدداً من العاملين في جريدة "شارلي ايبدو" الفرنسية الساخرة على خلفية نشر صورة مسيئة للإسلام، والتي لم تنته فصولها بعد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024