عن أيقونات الشارع… الجسد المُواجِه

محمد حجيري

السبت 2019/11/02
أفرزت انتفاضة الشارع في لبنان مجموعة من الصور - والأيقونات، التي تعبّر عن الواقع والأحداث والمشهديات والجسد والحواس والحبّ والتوحش والبربرية والإغواء والزمن... من خلالها يمكن استقراء مآل الحياة اللبنانية وناسها وثقافتها وأنماط عيشها وسياستها وتياراتها ونبضها...

البداية كانت مع صورة الفتاة التي ركلت مرافق وزير التربية أكرم شهيب بأسلوب الكاراتيه، وحظيت باهتمام الرأي العام باعتبار أنها رافقت انطلاقة التظاهرات في ساحة رياض الصلح ضد ضريبة "الواتس آب"، وقد حصل اشكال بين المتظاهرين وموكب الوزير الذي أطلق مرافقوه النار في الهواء، واحدثواً هلعاً وبلبلة. وميزة الصورة أنها تبيّن المرافق مسلحاً ببندقية، تتحداه امرأة عزلاء بشجاعة فائقة وغير معهودة. ونُسب فعل الفتاة إلى "بطولات" الحركات النسوية، وثمّة من قال إنها "كنداكة لبنان" (على نسق "كنداكة السودان")، ورُسمت بطريقة البوب آرت مرفقة بعبارة "عليهم"، وصارت مثل لوغو للثورة، يرافق نشاطاتها الميديائية، سواء البيانات أو الموسيقى، وسارع نشطاء "فايسبوك" إلى البحث عن هوية الفتاة وتمجيد بشجاعتها، ونبش وأصلها وفصلها.

والحراك الذي بدأ بصورة الفتاة الشجاعة والرشيقة، لم ينته بصورة شاب همجي من مناصري "حزب الله"، واضح الهوية والوجه والولاء والهدف والاسم، عاري الجذع متجهم النظرات، يحمل عصا ويهاجم فتاة مشاركة في الاعتصام في وسط المدينة، ويهمّ باللحاق بها لضربها وتعنيفها وهي هاربة منه... وأُخذت الصورة من أكثر من زواية، وأظهرت الفتاة العزلاء والحزبي المتوحش والهمجي في أكثر من حركة، وانتهت الصورة بأن أصبحت أيقونة بوب آرت بعنوان "صامدات"، فبدت معبّرة عن فئة من الناس تريد التحرّك سلمياً بحثاً عن مطالبها الاجتماعية، وفئة أخرى متحكّمة بمفاصل البلد تمعن في العنف اللفظي والوحشي والجسدي والخطابي والهذري والذكوري لمنع أي تغيير، ولصدّ أي اعتراض. وحجّة رعاة الشاب الحزبي ودفاعهم عنه وتبريرهم فعلته المشينة، أنّ زعيمه المقدّس تعرّض للشتّم والسباب، ضمن موجة شعارات "كلّن يعني كلّن"، وأن كل فريق لديه شارعه. ولم يسأل رعاة الشاب الحزبي، ولم يفكروا لماذا بدأ الشعب يشتم؟ وسبق أن شهدنا بعض الشتائم للزعيم المقدّس في الضاحية الجنوبية، وأُجبر أصحابها على الاعتذار علناًَ، مع التذكير بأن غزوة 7 أيار 2008، كانت نتيجتها في بيروت والمناطق، عشرات القتلى، واعتبرها الزعيم المقدّس "يوماً مجيداً".

وما بين صورتي الفتاتين، راكِلة مرافق الوزير، والهاربة من العنف من الحزبي، وتعبيرَي "عليهم" و"صامدات"، كانت صور العسكري اللبناني الذي ذرف الدموع اثناء المواجهة مع المتظاهرين في منطقة جل الديب (شرقي بيروت). فبينما كان الرأي العام منهمكاً في الحديث عن محاولة قوى الأمن والجيش فتح الطريق بالقوّة، بطلب من السلطة الحاكمة، ومع بدء التدافع ونشر صور لمواطنين تعرضوا للعنف، كانت دموع العسكري تأخذ المشهد إلى مكان آخر. غيّرت المعادلة السائدة. كانت أقوى من الكلام، ومن الأوامر... كأنها دموع "الإحساس"، وواجب التلاقي بين العسكر والشعب، ورفض المواجهة، اذ اعتدنا على صور العسكري الخشن والفج، التابع للطغيان الذي يمعن عنفاً بالناس بشتى الوسائل، من الهروات إلى الرصاص الحيّ والبراميل المتفجرة (الأسد نموذجاً).

في مجمل الأحوال، هناك الكثير من الصور ذات المعاني الثاقبة والحادة، مثل الشيخ الذي يرقص في ساحة الاعتصام، والرجل الطرابلسي أو الشمالي أو العكاري، مقطوع الساق يمشي على عكاز، يكنس "ساحة النور" في طرابلس.. هو لم يكن يبحث عن صورة بقدر ما بحثت الصورة عنه، ووجدت في إعاقته تعبيراً عن العزيمة والتحدي.

والصور العفوية الأكثر تعبيراً، كانت لفتيات كأنهن خارجات من سينما هولوودية، متحررات بثيابهن وحركاتهن وطيرانهن وتصدرهن المشهد. معظم من تلقف صورهن وجمالهن كأنه يقول "هكذا ينبغي أن تكون الحياة في الشرق"، وكتب فيهن الشعر والقصائد الفايسبوكية. كأن صور النساء أتت تعبيراً عن انتفاضة على كل التقاليد والأنظمة البالية في السياسة والمجتمعات، نساء يحملن العَلَم اللبناني، مجرّدات من هويات طائفية أو حزبية، الحرية هي عالمهن ونظرتهن، ورغد الحياة هو مطلبهن. من دون أن ننسى أن الكثير من الألفاظ المشينة، التي قيلت عن نساء الحراك، كانت دليلاً عن كبت مزمن من جهة، وعن نمطية رائجة في الأذهان، تقال عن نساء لبنان في بعض العالم العربي.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024