رسام السرد

روجيه عوطة

الخميس 2019/02/07
كان أمين الباشا عبوساً. فمن يصادفه هنا أو هناك، يصطدم بوجه لا يخفي قسمات تجهمه، وفي بعض الأوقات، ملامح استيائه الشديد. لوهلة، كان يبدو وجهاً مقفلاً، ولوهلة، يبدو أن حامله يستخدمه كحاجز يضعه بينه وبين أغياره، الذين يبقون بعيدين عنه، ولو كانوا يحيطون به. هذا الوجه - الذي لا تظهره الصور مع خبر رحيله لأن على الميت يكون سعيداً، أن يحب موته - كان يخبر بأن الباشا، وأينما حضر، لا ينصرف من مشغله، ومن انشغاله بلوحاته، ومنحوتاته، وأحياناً كتبه. كان مسكوناً برسمه، أو بالأحرى كان رسمه مسيطراً عليه، لدرجة أنه، لما عاش فترة في روما، كان يعمل عشرين ساعة يومياً بلا كلل أو تعب. يرمي أقلامه وأوراقه أمامه، ويشرع في تسجيل ما يشاهده، أو ما حلم به تحديداً.

لقد كان الحلم هو الكلمة المفتاح في لغة الباشا. فيقول أنه لا يخط ويلوّن، بل يحلم. إذ إنه ينتمي إلى تلك الوجهات الفنية، التي نشأت في الخمسينات، والتي شكل استدعاء الحلم فيها سبيلاً إلى اكتشاف عالم مجهول، حيث تدور الرغبة وتتكشف مواربة.

ولم يترك الباشا حلمه، بل حرص على تتبعه من رأس النبع، حيث كان طفلاً، إلى الدائرة السادسة في باريس، وبينهما، عين المريسة التي لطالما تذكر منها القمر الذي ينير بيروت، ويجعل ليلها يرافق بحرها في تلقي الأجساد المتعمدة به. ثم، ولاحقاً، وجد الباشا حلمه في إيطاليا، ومن بعدها اسبانيا، لا سيما بسبب حبه لأنجيلينا.



عندما كان الباشا يقطب حاجبيه، فذلك لأنه يستكمل حلمه، الذي، وبحلوله في اللوحة، يظهر، بداية، نسيجاً من الألوان، كما يظهر أن الخطوط هي التي تنظم هذا النسيج لتجعله براقاً أكثر. فلا يمكن، وعند التفرج على غالبية لوحات الباشا، الاعتقاد بأن رسامها وضع خطوطه أولاً، ثم ألوانه ثانياً. بل على العكس، وضع ألوانه، ثم أتى بخطوطه التي تحولها إلى مشاهد. هذه المشاهد، وفي العادة، توصف بالطبيعية أو التصويرية أو التجريدية، لكنها، قبل ذلك كله، هي سردية، بمعنى التعاقب، لكن بمعنى النسج أيضاً.

سرد الباشا، بيروت، هذا ما يتفق عليه محبو فنه. وسرده هنا لا يختصره التقاطه، بالريشة أو القلم، للوقائع اليومية في المدينة، وتحويلها إلى اسكتشات متواصلة، تروي ما يحصل أمام هذه الواجهة، أو في ذلك المقهى. إنما يتعدى السرد هذا، التتالي الاسكتشي، ليكون الأساس في تشكيل كل اسكتش من الاسكتشات، بحيث ان النظر اليها يبين أن عناصرها منسوجة مع بعضها البعض، وقد كان الباشا يعرف قوة الفراغ الذي يتركه بينها، بحيث يسمح للضوء أن يمر. بهذا المعنى، كان الباشا، ولأنه رسام، راوياً، مثلما كان يدري ان السرد ليس - وكما يتخيله حراس أزمة الرواية الراهنة، حراس انحطاطها - مجرد إخبار، أو تصميماً للإخبار كحد أقصى، بل لعباً مع الضوء.

من هنا، وعندما قدم متحف سرسق، قبل عامين، المعرض الذي استذكر الباشا به، كانت منحوتات الرسام، التي تجسد أشخاصاً وحيوانات ومواقف، تشي بكونها متصلة بلوحاته. لكنها، وفي الوقت نفسه، مستقلة عنها. وبهذا، اتسمت بشِعرية معينة، مفادها هو ولادتها من قلب السرد اياه، ثم جرها له إلى حده الأخير، وانتهائها منه. الإشارة إلى ذلك: انقلاب العلاقة في المنحوتات بين الألوان والخطوط، فلا تسبق الأولى الثانية، بل ان هذه المنحوتات تتألف من خطوط أولاً، تتزين لاحقاً بالألوان. فليس صدفة أن النحت، الذي غالباً ما يجري تجنبه عند الحديث عن فن الباشا، هو الذي مضى بهذا الفن إلى تحوله من السرد إلى الشعر، يعني هو الذي فرقه عن مؤسسته.

موت أمين الباشا هو موت الفنان الذي جذبه الرسم كهواية، لكنه سرعان ما جعل هذه الهواية تخصصه، اي طريقه إلى هذا الغاليري وذلك المعرض وتلك الكنيسة. إلا أن روح الهواية بقيت في التخصص، شك الهواية ظلّ في يقين التخصص. لهذا، لم يكن أمين الباشا يبغي في رسمه الكثير سوى المصالحة بين الاثنين. انها مهمة قاسية، وقد بان أثرها في طلّته. 
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024