"ديكتاتورية الهويات" للوران دوبروي: سياسة الجرح المفتوح

روجيه عوطة

الإثنين 2019/07/29
يبدأ لوران دوبروي كتابه، "ديكتاتورية الهويات"، الذي صدر مؤخراً في باريس عن دار "غاليمار"، بالتشديد على كون سياسة الهوية ليست سياسة، بل إنها بؤسها، وبالتالي، هي، وككل بؤس، لا تكمن خطورتها في كونها تزيل كل سياسة ماضية فحسب، إنما تقضي على كل احتمالاتها القادمة أيضاً. فهذا البؤس، الذي يغدو برنامجاً وخطبةً وشعاراً وعملاً من اليمين إلى اليسار، يؤدي، وفي خلاصته الوقائعية، إلى استبداد متفاقم، أو بالأحرى متكاثر، بحيث أنه كناية عن استبدادات لا تتوقف عن الاشتغال في نواحي الاجتماع على اختلافها، وأول اثر لاشتغالها هذا فيه هو أنها تنتج غيرها: هوية تستبد، فتنتج هوية، التي، وبدورها، تستبد، وتنتج هوية... بالتالي، يصير من الممكن الحديث عن نمط إنتاج هوياتي يشكل السياسة على عمومها وعلى خصوصها ليجعلها آلة تفتيتية. طبعاً، في هذا السياق، يصح رفد دوبروي بدرس من برنار ستيغلر، الذي كان قد ميز بين منوالين، المنوال الرمزي والمنوال الإبليسي، الأول sym-bolique، يؤلف، يركب، يجبر، أما، الثاني، dia-bolique، فيفرق، يقسم، يجزئ، وهو، فعلياً، قوام سياسة الهوية، أو سياسة بؤس السياسة.

لكن سياسة الهوية لم تولد لتكون على ذلك المنوال. فعندما يعمد دوبروي إلى تقديم "تأريخة" بسيطة عنها، يردها إلى بداية السبعينات، مشيراً إلى أنها كانت تسييس لأمر محدد، وهو انتظار الثورة الكبرى. ففي العام 1970، صدر عن مجموعة من المثليات الأفرو-أميركيات بياناً، تكلمن فيه عن "سياسة الهوية" بوصفها طريقاً للذهاب من الخصوصي إلى العمومي، من الانتفاض على أساس الهويتين الجنسية والعرقية في سبيل الحض على الإطاحة بالنظام الإجتماعو-إقتصادي كاملاً. فبدلاً من طمس الانتفاض بالإطاحة، يصير الانتفاض طريقاً إلى هذه الإطاحة، التي لا يعود التمهيد لها مرادف لترقبها كيوم الآخرة، أو "الصاخة" على ذكر قرآني، بل مساوياً لاعتمالها في مطارح لأيام وبصيحات متفرقة. إلا أن هذا البرنامج، وبعد عقود من انطلاقه، وبعد أن تحول إلى مشروع إيديولوجي رسمي، صار كبح للإطاحة بالإنتفاض، كما صار تعطيل للإنتفاض، الذي، وعندها، لا يعود أفقه سوى عنواناً للإنسداد.

يربط دوبروي هذا المشروع بمشروع آخر، وهو الاحتلال التواصلي، ومع أنه يقتضب في ربطهما، إلا أنه يلمح إلى أن "سياسة الهوية" هي سياسة ذلك الاحتلال، الذي ينتج مستخدموها-مستعرضوها-فاعلوها، بحيث يوفر لهم "جهاز" تحويل كل وضع وموقف وسمة وهيئة إلى هوية، ثم، تشعيب كل هوية إلى هويات، ثم جعلها قديمة بمزاحمتها بأخرى جديدة. في هذا النحو، يكون ذلك المشروع، قرين الاحتلال التواصلي، "تحديدوياً" بامتياز، إذ إنه يدفع المنخرطين فيه، وهم تقريباً الغالبية الساحقة من مواطني المعمورة، إلى تحديد ذواتهم وأغيارهم، وإلى بذل الجهد في تكريس هذا التحديد، والحفاظ عليه. ولا يمكن لهذه "التحديدوية" أن تستقر على متانتها الإقصائية، والعمياء "التي تضير"، على عكس قول بشار بن برد، سوى بالمنع، الذي يتناوله دوبروي في فصل على حدة، مستحضراَ وقائع من يوميات الجامعة في الولايات المتحدة الأميركية، حيث يُعلِم. منها، منع تدريس نصوص أدبية أميركية وعالمية، كنصوص فيتزجيرالد، وأوفيد، وسوفوكلوس إلخ.، لأنها متهمة بكونها تسيء إلى هذه الهوية أو تلك، منع بيع مأكولات من مطابخ عالمية بعينها في الكافيتيريات بحجة الاستحواذ الثقافي عليها، تخريج الطلاب في "هارفرد" على دفعات منفصلة بحسب لون البشرة... ولكن، إذا كان المنع في هذه الوقائع واضح، فثمة منع آخر، لامرئي، وهو، فعلياً، شديد وفتاك، يدور في رجاء القمع الأولي، أي في الرأس، دافعاً صاحبه إلى منع نفسه، ليس عن الكلام بلا ما يسمى لبنانياً "مراعاة الحساسيات" فقط، بل، أيضاً، وهذا هو الأهم، عن التفكير بلا الإرتكاز على براديغم الهوية، وبلا جعله تركيزاً لها، يعني عن التفكير على حريته.

في مقلب متصل، يُسجل لدوبروي أنه خصص فصلاً عن الجرح، الذي يشكل، وفي حسبانه، محور نمط الإنتاج الهوياتي. فالهوية تنطلق من جرح، يقيم حاملها فيه، ويتمسك به، وبهذا، يحقق ما يريده جارحه منه، الذي، وبعد أن يدفعه إلى الثبات في هويته، وليس إلى اثباتها، يبدأ بانتاج ذاته على ضده أيضاً، إذ أن بغية الجارح أن يصير المجروح معرِّفه. عندما يوقف المجروح هويته على جرحه، وينتقل إلى سياستها، لا يعود في مقدوره ان يدمل جرحه، أن يُشفى منه، بل إنه يقيم فيه، فاتحا أو موسعا اياه، وشيئا فشيئا، ينسحب، وينعزل به، طاردا كل مَن قد يذكره بأن ثمة حياة بعد الجرح، وبعد هويتها، أي ثمة حياة محررة من إرادة الجارح، وسلطته. لهذا، وفضلا عن المنع، لسياسة الهوية آلية أخرى، وهو صناعة "المساحة الآمنة"، التي، في العادة، ينفي ساكنها، المجروح، اي شيء منها على أساس أنه الجارح، وهذا، لكي ينفي أن الجارح لم يستحيل في داخلها، وأن الجرح ليس هو النفي نفسه. في "المساحة الآمنة"، كل شخص ليس من قاطنيها هو جارح، ولهذا، سرعان ما تتحول إلى غيتو.

بعد تقديمه لنظرته حول بؤس سياسة الهوية، لا يختم دوبروي كتابه بدعوة إلى الإقلاع عن الهويات، وهذا، على ما كان الأمر اليساري المتزمت، كما لا يدعو إلى عبور هوياتي، على طموح "النظرية الكويرية" ذات مرة قبل أن تصير، وفي ظنه، عبوراً لرسم حدود أو لرفعها. فيستدعي تريستان غارسيا، الذي سأل: "هل يجب الانتهاء من الهويات؟ لا، هل يجب التنازل عن الانتهاء من الهويات؟ لا". كيف؟ يبقى جواب دوبروي مختصراً، وسريعاً، وقريب من كونه تدريبا فرديا، لكنه، يصلح كلبنة أو مدماك: بالاستعاضة بدايةً عن الهويات باجراءات التماهي الجزئية، غير الكاملة، المتعددة، غير المحدَدة، القابلة للإلغاء، فبذلك، يصير من الممكن تعطيل "سياسة الهوية"، أو بالأحرى تحويرها وتحويلها، وتشغيل الإطاحة والانتفاض ضد نظامها المستبد.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024