كليشيهات أليف شافاق وهفواتها

نزار آغري

السبت 2020/09/05
حين نشرت أليف شافاق رواية "لقيطة اسطنبول" وتعرضت بسببها للملاحقة القضائية، صارت، بين ليلة وضحاها، أشهر من نار على علَم، كما يقال، هي التي كانت بالكاد معروفة في تركيا. تُرجمت الرواية إلى عشرات اللغات، ونالت الكاتبة الحظوة والمكانة والتقدير.
يومذاك اكتشفت شافاق سراً من أسرار كسب الرأي العام في العالم الغربي الذي يحدد، بدوره، اتجاه الرأي العام في الكرة الأرضية كلها.

انتبهت إلى أن هناك مواضيع، أو قضايا، إذا طرحت في نصوص روائية يمكن أن تستأثر باهتمام كبير فيعمل ذلك على جذب النقاد وحشد القراء. انكبت، مثلما فعلت من قبلها الروائية الهندية أرونداتي روي مثلاً، على التعمق في ما يشغل بال العالم الغربي من قضايا وما يثير قلقهم من مشاكل: المرأة، الأقليات، البيئة، الاضطهاد الجنسي للمثليين والمتحولين، العنصرية، جرائم الشرف، التصوف والنوازع الصوفية حيث الحب والعشق والسكينة…الخ.

نشرت "بنات حواء الثلاث"، عن ثنائيات الإيمان والإلحاد (الأب ملحد يشرب طوال الوقت والأم متدينة تصلي طوال الوقت)، "شرف"، عن جرائم الشرف. "القواعد الأربعون للعشق"، عن الحب والكره.

بتنا، نحن القراء، نتابع انشغال الكاتبة بهمومنا البشرية ودعوتها لنا بأن نسعى إلى التمسك بالفضيلة والتسامح. وفي كل الروايات التي كتبتها لاحقاً تنهض الثنائيات المعهودة: الخير والشر، التسامح والتعصب، الإلحاد والإيمان، السيد والعبد، الرجل والمرأة، الغرب والشرق، السوي والمنحرف. ثم خطر لها أن تحشر القضايا كلها في رواية واحدة، فكتبت "عشر دقائق وثمان وثلاثون دقيقة":
اضطهاد المرأة: الزوجة الأولى بيناز.
اغتصاب الأطفال: ليلى والخال.
الولد المنغولي.
المتحول الجنسي: نالان.
الولد الضعيف: سينان
الإفريقية: جميلة.
القزمة: زينب اللبنانية.
المسيحية: حميرا الماردينية.
الإيزيدي.
مثلي الجنس: ابن الثري الذي يؤمن له العاهات كي يبعده عن عشاقه من الذكور.
القطة الجريحة. 
الشيوعي
الفاشي
فيتنام
أميركا.

أي أن الكاتبة، والحال هذه، صنعت سفينة نوح روائية وزجت فيها زوجين من كل صنف من المنبوذين، حتى أن صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية كتبت عن الرواية تحت عنوان عريض: المنبوذون أو "غير المرغوب فيهم"، على غرار "البؤساء"، عنوان رواية فيكتور هوغو. وواضح تماماً اللعب بالكلمتين المتقاربتين في اللفظ، المنبوذون والبؤساء:
Les misérables, les indésirables
حظيت الرواية باهتمام كبير، وتُرجمت إلى كل اللغات، بالطبع، ورشحت لجائزة بوكر، بالطبع أيضاًَ.

المراجعات النقدية التي تتناول روايات شافاق، وهذه الأخيرة على وجه الخصوص، تكرر مقولة واحدة لا تتغير: أنها تدافع عن المقموعين والمهمشين. هذا صحيح. فالكاتبة تبدو وكأنها تكتب نصاً واحداً تقلبه على أكثر من وجه. والمواضيع المطروحة تظل هي ذاتها ولكن بتجليات متدرجة، كتدرج الألوان في لوحة واحدة. وفي كل الروايات التي نشرتها حتى الآن لا تخفي شافاق نزوعها نحو تنميط الشخصيات وجعلها دالات لحالة عامة أو وضع جماعي أو تمثيلات عرقية أو دينية أو جنسية بحيث تتحول كل رواية إلى قالب تصب فيه أفكارها النضالية وتزودنا بنظرتها للعالم وقضاياه.

الروايات، والحال هذه، ذرائع لإيصال الفكرة. ونحن إن أزلنا اللوحات الوصفية والحوارات الجانبية، نستحصل مجموعة من الإنشاءات المحشوة بالوعظ والإرشاد والحكم الموروثة والنزوع الصوفي بما يذكرنا بنصوص البرازيلي باولو كويلو، أي كليشيهات متكررة في قوالب روائية.

لا تتردد الكاتبة في أن تكون عاملة إرشاد وتصير رواياتها كتب هداية. وصايا للبشر كي يحولوا الكوكب الذي يعيشون فيه إلى جنة. يوتوبيا. لكن أليس هذا ما تزخر به مؤلَّفات الأنبياء والفلاسفة والمفكرين والثوار، بدءاً بوصايا النبي موسى ولقمان الحكيم وصولاً إلى  تعاليم ماركس ولينين وغيفارا وسواهم؟ 

أليف شافاق مقتدرة في مواهبها الكتابية (كروائية وصحافية وأستاذة جامعية)، غير أن انشغالها بالرسالة التي تؤديها كثيراً ما يحجزها في هاجس التبشير، فتلوي عنق النص الروائي ليصير امتداداً لهواجسها الشخصية، هي الناشطة والمدافعة عن حقوق النساء والأقليات والمثليين والحيوان وسوى ذلك.

أكثر من هذا فإن الجري خلف الفكرة يستنزف جهدها فتنسى وتقول هنا شيئاً لتأتي في فصل لاحق وتقول ما يناقضه، ثم تقع، من حيث لا تدري، في أخطاء كثيرة.
في "لقيطة اسطنبول" و"قواعد العشق" و"بنات حواء" هفوات كثيرة. غير أنني أركز هنا على نص "عشر دقائق" باعتباره الوعاء الذي كدست فيه الكاتبة هواجسها الدعوية. ولأنه كذلك، فهو الأكثر امتلاء بالأخطاء التي أورد هنا بعضها:

ترتكز الرواية كلها على فكرة أن ذاكرة الإنسان تبقى نشطة لأكثر من عشر دقائق بعد موته، وأن الميت يتذكر في تلك الدقائق كل ما مر به في حياته.

هذا ما تفعله القتيلة ليلى. غير أن الكاتبة، وعلى لسان الراوية، كُلِّية المعرفة، تورد وقائع وحوادث ومعلومات لم تكن ليلى على علم بها. فالكاتبة هي التي تسرد، وليست ليلى هي التي تتذكر. وهكذا تصير فكرة أن الميت يتذكر مجرد ديكور خارجي لا يقف على أساس في الرواية. فما الفائدة، إذن، من استعمالها؟ 

*** 
كانت ليلى في السادسة من عمرها حين تحرش عمها بها جنسياً. 
لندقق في المشهد عن كثب: عائلتان معاً في نزهة على البحر في عطلة الصيف. الجميع ينامون في بيت، أو فندق، على الساحل. في الليل ينهض العم ويمضي أمام الجميع إلى الغرفة التي ينام فيها الأطفال. يندس في فراش ليلى ويبدأ عملية التحرش.
كيف فشل الجميع في رؤية العم؟ 
كيف فشل الأطفال الآخرون في سماع ما يجري تحت أسماعهم؟

ليلى في السادسة من العمر، أي أنها لا تعرف شيئاً، أو لا تعرف الكثير، عن الجنس والفضيحة، فلماذا لا تصرخ أو تنادي أو تبكي حين يفاجئها العم بهذا الاقتحام المخيف؟ أيعقل أنها، في هذا العمر، متواطئة مع العم وأنها سكتت لأنها إما راضية بما يفعله أو تجنباً للفضيحة؟

ثم إن الكاتبة تقول إن ليلى، في اليوم التالي صارت تبكي من الألم وأن حرارتها ارتفعت. نفهم من هذا أن التحرش كان أكثر من مجرد ملامسات ومداعبات. فكيف تمكنت الفتاة الصغيرة من التغلب على الآلام وبقيت ساكتة حتى الفجر؟ وإذا كان ثمة ألم فهذا يعني أن بكارتها قد فضت فكيف تم ذلك من دون صراخ؟

ثم نقرأ أن الأم تفحص جسد الطفلة كي تعرف مم تتألم، فلماذا لا تشير الفتاة بكل بساطة إلى مكان الألم؟ 

ثم تخبرنا الكاتبة أن التحرش استمر سنوات إلى أن أدركت ليلى سن البلوغ فحبلت منه. أيعقل أن ليلى، طوال هذه السنين، أبقت الأمر طي الكتمان؟ ما الذي كان يمنعها من أن تخبر أمها أو أباها أو حتى صديقها نالان؟

***
تقول الكاتبة أن العادات والتقاليد في البلدة صارمة جداً، والناس متدينون للغاية ولا يمكن أبداً أن تسير فتاة مع فتى في الشارع. لكنها تنسى ذلك في ما بعد وتخبرنا بأن ليلى ونالان يذهبان إلى المدرسة ويعودان منها معاً وأنهما يبقيان معاً خارج البيت يتبادلان الغرام.

***
في الفصل المعنون، "المرسيدس الفضي"، يأتي رجلان إلى المطعم البحري الذي يديره رجل وابن أخيه الصغير. يوقفان السيارة ويطلبان وجبة سمك. لا ينزلان من السيارة لأنهما سيأخذان الوجبة معهما. زجاج السيارة، كما تقول الكاتبة، داكن من ذلك النوع الذي يعجز من هم خارج السيارة في رؤية ما بداخلها. ومع هذا فإن الولد الصانع في المطعم يرى أن هناك قطرات دم في السيارة، ثم يخبر عمه أن الرجلين قاتلان. طبعاً نعرف، نحن القراء، أن الرجلين هما بالفعل من قتل ليلى لكن السؤال هو: كيف تمكن الولد من رؤية قطرات الدم في عتمة الليل ومن خلال الزجاج الداكن؟ وإذا افترضنا أنه، بقدرة قادر تمكن من ذلك، فكيف عرف أن الرجلين مجرمان؟ يمكن أن يكون أحدهما جرح إصبعه أو تعرض لنزيف من الأنف أو يمكن ببساطة ألا تكون تلك القطرات دماً بل سائلاً أحمر أو كاتش أب الخ.
 
ليس هناك أي داع لأن يخطر في بال الولد أن اللطخات الموجودة في السيارة هي قطرات دم، هذا إن تغاضينا عن أمر قدرته على رؤيتها في العتمة ومن وراء الزجاج الداكن، وبالطبع ليس منطقياً أبداً أن يقرر أن الرجلين مجرمان.

***  
في الفصل المعنون: "الطريق"، في الساعة العاشرة والنصف ليلاً تنطلق السيارة التي تحمل أصدقاء ليلى من اسطنبول إلى المقبرة. هناك سوف يحفرون المقبرة ليستخرجوا جثة ليلى. يستمر الحفر طوال الليل تقريباً. يتبين لهم أنهم حفروا المقبرة الخطأ. يردمونها. يحفرون من جديد.ولكن الوقت يبقى كما هو لا يتحرك. كانت الكاتبة قالت قبل أن تتحرك السيارة أن عاصفة قوية آتية. ومع هذا ينتهي الليل كله من دون أن يحدث أي شيء.

نقرأ ما يلي: توقفت السيارة بشكل مفاجيء فارتفع الغبار. الكاتبة تنسى أنها قالت قبل قليل أن المطر هطل غزيراً وصار الطريق موحلاً.

تعنون الكاتبة القسم الثاني من الرواية بـ"الجسد".
في القسم الأول كان الحديث عن ذاكرة ليلى. هنا يذهب بنا الظن إلى الإعتقاد بأن السرد سوف يتركز على جسد ليلى. ولكن لا. هنا لوحات متلاحقة عن أشخاص آخرين لا علاقة لهم بليلى. لا حبكة. لا تشويق. لا إضافة. لا إضاءة على الفكرة الاساسية. مقالات مستقلة، صحافية، عن الرشاوى والقبور….الخ.

أما القسم الثالث فتسميه "الروح". ولا علاقة له بالروح، لا من قريب ولا من بعيد، بل تمضي الكاتبة لتتحدث عن الجسور والطرق والسيارات التي تعبر الشارع وسوى ذلك من أمور لا روح فيها. 

الحال أن وقوع الكاتبة تحت إغراء أن تقدم للقارىء (الغربي على وجه الحصر) ما هو "شرقي" وغرائبي وإكزوتيكي يدفعها إلى تلمس ما تظنه مادة مثيرة في هذا الباب: استعمال كلمات مثل الجسد والروح والفناء، كما لو أن الكلمة بحد ذاتها، من دون توظيفها بعمق في النص، كافية بذاتها لدفع القارئ إلى قطف ثمارها. تماماً مثل استعمالها للمفردات التي تشير إلى الروائح، روائح الشاي والبقلاوة والحلوى. وكنا رأيناها تلجأ إلى وضع مفردات بأسماء المكسرات في عناوين فصول رواية "لقيطة اسطنبول" (القرفة، الفستق، الجوز..الخ)، من دون أي بعد وظيفي، أي مجرد اكسسوار. زينة شرقية.

*** 
تكتب الروائية أن اثنتين من المجموعة تعثران عند الفجر على قطة جريحة فتتأثران جداً وتحملانها (لا تنس: الرفق بالحيوان) وتقرران البحث عن طبيب بيطري لمداواتها. متى؟ في الساعة الخامسة صباحاً. 
طرقتا على باب البيطري (كيف عرفتا أنه بيطري؟). طلبتا منه أن يفتح عيادته، كما لو كان دكاناً.
استجاب البيطري وذهب معهما ليفتح الدكان، أقصد العيادة.

***  
ليس الكاتب، ولا ينبغي أن يكون، رسولاً أو مبشراً أو داعية أو زراع حكمة أو ناشر أخلاق. الكاتب هو، أولاً وأخيراً، صانع فن وإبداع وجمال، بعيداً من أي قياس أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي. الركض وراء القارئ بقناع الأخلاق والرقة والطيبة والتسامح، يثير، ليس التذمر والملل فحسب، بل الريبة أيضاً، لأن القارئ يعرف أن القناع يخفي خلفه وجهاً آخر.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024