من مصر ننظر إلى لبنان: نبتسم، نحبّ، ونخاف

هشام أصلان

السبت 2019/10/26
1
"وعرفنا مين سبب جراحنا، وعرفنا روحنا والتقينا
عمال وفلاحين وطلبة، دقت ساعتنا وابتدينا".

كلمات أحمد فؤاد نجم وألحان الشيخ إمام تأتينا في عدد من الفيديوهات بصوت المتظاهرين في ساحات الثورة اللبنانية. لا مفر من تأثر عاطفي قد يعتبره الساسة والمخضرمون شكلًا للسذاجة بعد ثماني سنوات ذقنا عبرها مرارة إحباط ثورتنا، بالأحرى ذقنا "مرمرطة" يقول الأكبر منّا عمرًا إنها غير مسبوقة في التاريخ المصري الحديث. لا مفر من ابتسامة ربما لا تلائم القراءة العملية لسنواتنا السيئة. ولكن لمَ لا؟ بعض السذاجة ربّما تشير إلى أننا لا نزال بشراً. هكذا أفكر في تلقي أصدقائي السياسيين قبل مشاركة فيديوهات الثوار في لبنان، يغنون "شيّد قصورك" عبر صفحتي في فايسبوك.

والموضوع ليس له علاقة بأفكار قومجية. ربّما يلعب التلقي الأول على وتر الفرحة بأغنية مصرية تؤجج حماسهم، لكن في بُعد أعمق، هناك أثر أكبر لفكرة الامتداد الإنساني بين أصوات التمرّد في كل بقعة ينال منها ظلم. تمرّد ينطفئ في مساحة وقبل أن يأمن الظالمون يضيء في مساحة أخرى، نحن الذين تتورد وجوههم كلما علا صوت: "لا". ثورتهم تحيي ابتسامتنا، كما يمدّ مؤيدو ظالميهم خيوطًا يلتقطها انطباعنا ببراعة. همُّ المظلومين واحد، وهمُّ الظالمين واحد.

2
قبل أسابيع قليلة، وفي مقاومة شرسة من السلطة المصرية لاحتجاجات معارضة، عادت إلى الصورة مجموعة من الأسماء المرتبطة مباشرة بثورة يناير، ليس لكونهم شاركوا في تلك الاحتجاجات، لكن بسبب إلقاء القبض عليهم بشكل جماعي ولأسباب لا يفهمها أحد. شراسة السلطة وأداؤها الجديد في قمع الاحتجاجات نجح في تكميم الأفواه مرة أخرى، وبينما بات الاعتراض العلني إلقاء بالنفس إلى التهلكة، لم تعد هناك وسيلة للمطالبة بالإفراج عن "وجوه يناير" أو أي من معتقلي الرأي سوى بالتدوين عنهم في صفحات التواصل الاجتماعي، وهو أمر لا يخلو من مخاطرة، لكنه أضعف الإيمان، لنفاجأ بعدها بأيام بصورهم مرفوعة من قلب ساحات الثورة في بيروت: "الحرية لعلاء عبد الفتاح، الحرية لماهينور المصري، الحرية لإسراء عبد الفتاح". صور المناضلين المصريين والمطالبة بالإفراج عنهم رافقتها شتائم بذيئة للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ليتبادل المعارضون المصريون الإفيه حول رئيسهم الذي لا تقوم ثورة أو احتجاجات في بلد إلا وترتفع الأصوات تناهضه. أمر مدهش، لا يفسره سوى مستوى رفيع من إحساس يسري بين المظلومين وبعضهم البعض. نسعد بكون الحقيقة واضحة للجميع، وبأن القابعين في سجون الرأي لا يدفعون من أعمارهم هباءً.

3
ينظر الواحد إلى الثورة الشعبية في لبنان بحب وخوف كبيرين. بيروت التي يعود أصحابنا من زيارتها بعبارة واحدة "فايتك كتير لو مارُحتش"، والتي لها في مخيلة من لم يزرها الكثير من الجمال، غير أن المسألة لا تقف عند حدود المشاعر الطيبة تجاه بلد ورثنا وضعه المتميز في الوجدان الثقافي، ونحب أن يظل مُتاحًا وجميلًا، أو لأن لنا فيه أصدقاء نأمل أن تظل أوضاعهم على ما يرام، بل هي مشاعر تجاه لحظة ذات أثر مباشر حقيقي على معنويات المرء الشخصية. ربما هي محبة في من يقول "لا" لأوضاعه السيئة من دون أن يضمن النتيجة، وفي أن تعطل الثورات، أو حتى فشلها في بلاد لم ينجح أن يحولها إلى عبرة للمتمردين في بلاد أخرى. في مصر لم تردعنا العبارة الشهيرة البائسة التي هددونا بها، حيث الصمت على الظلم "عشان منبقاش زي سوريا والعراق"، كما لم يردع اللبنانيون عبارة شبيهة لا أتذكر أين قرأتها: "عشان منبقاش زي مصر".

كل الذين ثاروا على أوضاع بلادهم السيئة بعد سنوات من 2011، فتحوا عيوننا على أن الدنيا لم تقف بعد، وأن الفجوة التي وقعنا فيها هي نقطة صغيرة على خط زمن الشعوب، قد تصلح لأن ينظر إليها غيرنا محاولًا ألا يقع في فجوة شبيهة، لكن ليس كعبرة يقف الخوف منها حائلًا بينه وبين أن يتمرد على أوضاعه السيئة. من يعرف أيضًا، ربما نستطيع نحن تجاوزها عن قريب. الذين ثاروا على أوضاعهم السيئة فتحوا أعيننا على أن الشعوب لن تصبح، أبدًا، عبرة لبعضها بعضاً، لكن المؤكد أن الظالمين قد يصيرون عبرة لبعضهم بعضاً.
©جميع الحقوق محفوظة لموقع المدن 2024